الكتابة التاريخية عن المدن باللغة العربية قبل العصر الحديث، تُعتبر أكبر إنتاج تاريخي قبل العصر الحديث في هذا المجال، فقد ازدهر التأريخ للمدن بصورة غير مسبوقة في الحواضر العربية، ووصل إلى ذروته في القرون من الخامس إلى التاسع الهجريين/الحادي عشر إلى الخامس عشر الميلاديين، وظاهر هذا النوع من الكتابة التاريخية أنه نزعة جهوية وإقليمية، إلا أنّ تحليل مضمون هذه الكتب يكشف عن روح قابلة لكل أشكال التنوع الذي ينصهر في الوسيط العربي مكانيًا.
شبكة من المدن رغم انتمائها لأقاليم جغرافية مختلفة إلا أنها مرتبطة بروابط العلم والاقتصاد والثقافة والعمران
أدرك العرب أهمية المدينة في حياتهم الدينية والاقتصادية والاجتماعية، فظهرت المدن سريعًا بدايةً من البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان، وتم الاستفادة من المدن القائمة مثل دمشق وحلب وتنميتها، ولم تكن المدينة مجرد مساحة للسكن، بل مظلة حضارية تنصهر فيها مختلف طبقات المجتمع، ومراكز تجارية وثقافية تضج بتفاصيل الحياة سواء على مستوى التجارة التي انتعشت، أو الثقافة التي ازدهرت، أو الفنون التي ارتقت.
لكل ذلك أصبح توثيق حياة المدينة العربية من الأهمية كانعكاس لتوثيق أحوالها، باعتبارها المكان الذي تولد فيه الحضارة، ومن هنا ظهر التأريخ الحضري عبر توثيق التخطيط العمراني للمدينة على فترات زمنية متلاحقة، وهو مستوى مرتفع في الكتابة التاريخية، يعبّر عن روح منفتحة على الآخر، إذ لم يقتصر الأمر عند تسجيل المباني وحركة البناء والتعمير بل ركزت هذه الكتب على حياة البشر داخل المدينة.
العديد من الكتب خصصت لمدينة بعينها، مثل كتاب "تاريخ مدينة السلام" للخطيب البغدادي (المتوفى سنة 463هـ/1071م)، ودمشق وتاريخها لابن عساكر (المتوفى سنة 571هـ/1176م)، و"بُغية الطلب من تاريخ حلب" لابن العديم (المتوفى سنة 660هـ/1262م)، والقاهرة وتاريخها "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" للمقريزي (المتوفى سنة 845هـ/1442م). فمن يقرأ هذه الكتب لا يخرج بقراءة محلية بقدر ما تفتح عينيه على التاريخ العربي كله.
الملاحظ أنّ المادة الأكبر التي تغطيها كتب تاريخ المدن تتعلق بنواحي علمية تشبه شبكة معرفية تتداول فيها المعرفة عبر محطات هي المدن ذاتها، لذا يخصص مؤرخ المدينة جل كتابه لذكر مَن زارها وعاش فيها، مع التركيز على العلماء وغالبيتهم من غير السكان الأصليين للمدينة.
العلاقة بين ثابت المكان ومتحوّل البشر تُكسب عملية التأريخ للمدن حيويتها في التراث العربي، فتشعر عند قراءة كتاب تاريخ بغداد أو دمشق أنك تطلع على حركة دؤوبة لا تلعب فيها المدينة إلا المسرح الذي يشهد تبدل أبطال القصة الأساسية، فيظهر نوع من الخصوصية الذي لا يعني الانغلاق بل يظهر التفاعل الحيوي بين مكوّنات مختلفة، وهو روح المدينة العالمية، فالواقع الجغرافي لا يقف كحاجز لتفاعل خلاق بين جميع الأفراد والجماعات التي مرت على المدينة العربية.
التأريخ للمدن أعطانا إجابة يمكن البناء عليها لإدارة التنوّع داخل المجتمعات العربية تحت المظلة الجامعة
هي روح تعززت بكتابات رحالة من نوعية ناصر خسرو وابن جبير وابن بطوطة، الذين أعطونا معلومات ضافية عن المدن العربية وكيف يتشابك تاريخها معًا، لتتمازج كتابات الرحالة مع ما كتبه أبناء هذه المدن نفسها، فتتشكل أمامنا في النهاية خريطة تتوزع عليها شبكة من المدن التي رغم انتمائها لأقاليم جغرافية مختلفة، إلا أنها مرتبطة بشدة في ما بينها بروابط العلم والاقتصاد والثقافة والعمران، مع التركيز على العنصر البشري أي مجتمع المدينة ذاته، وكل هذا انصهر ليقدّم لنا مدنًا ذات تأثير عالمي من جهة، وعزز الوحدة بين أبناء المدن العربية المختلفة من جهة أخرى.
نستطيع القول إنّ الاهتمام بتأريخ المدن والتأريخ الحضري في الحضارة العربية، لم يكن مجرد عملية انتماء إقليمي مغلق يكرس الانعزال، بل كان منهجًا عمليًا لبيان هوية الحضارة العربية، وكيفية تفاعل مفرداتها في حيّز المدينة كنافذة عرض تلخص هذه الروح، فضلًا عن إعطاء لمحة عن كيفية تطور المدن العربية وتنوع أنماطها، ما سمح لنا بدراسة معمقة لتاريخ المنطقة، والأهم أنّ التأريخ للمدن أعطانا إجابة يمكن البناء عليها لإدارة التنوّع داخل المجتمعات العربية، والاستفادة منها في تكامل حضاري وثقافي في المستقبل، قائم على الاحتفاء بالتنوّع تحت المظلة الجامعة.
(خاص "عروبة 22")