لم يعد في الأمر سابقة، كما كان الحال في المرّة الأولى في أبريل/نيسان بمدينة نيويورك حيث واجه ترامب اتهامات بمخالفة قوانين الانتخابات ودفع أموال لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية، بل تحوّل كل قرار اتهام جديد وظهور في قاعات المحاكم إلى فرصة لجذب الانتباه، وربما زيادة التعاطف، مع المرشّح الأقرب حظًا للفوز بترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات التمهيدية لمنافسة الرئيس الحالي الديمقراطي جو بايدن في سباق رئاسة 2024 والذي يُجمع المراقبون أنه سيكون ساخنَا، وسيرسّخ الانقسام الحاد بالنصف تقريبًا بين الأمريكيين بشأن رؤيتهم لمستقبل بلدهم وهويتها.
وبعد توجيه اتهامات جنائية رسميّة بحقه للمرة الثالثة نهاية الأسبوع الماضي في محكمة فيدرالية في العاصمة واشنطن، بتهم التآمر لتغيير إرادة الناخبين والترويج لأكاذيب بشأن نتيجة الانتخابات الرئاسية في العام 2020 والضغط على نائبه السابق مايك بنس لمنع تصديق الكونغرس على النتيجة، غرّد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على موقعه الخاص للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال" قائلًا: "أحتاج إلى قرار اتهام واحد آخر لكي أضمن انتخابي".
وهذا هو بالفعل ما تشير إليه استطلاعات الرأي التي تقوم بها المؤسسات المتخصّصة ووسائل الإعلام الأمريكية، فمع كل قرار اتهام تزداد شعبية ترامب ويزداد دعم القاعدة الجمهورية له على اعتبار أنه يتعرّض لمؤامرة ومحاولة "اغتيال سياسي" تديرها مؤسسات الدولة العميقة التي يسيطر عليها أعداؤه الديمقراطيون، وتحديدًا وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي " FBI" من أجل منعه من العودة إلى البيت الأبيض.
يبدو ترامب واثقًا من دعم قواعد الجمهوريين، أيًا كانت الاتهامات التي ستوجّه له
ففي مارس الماضي، أعرب 43 في المائة من الجمهوريين دعمهم لترامب مقابل منافسه الأقرب حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس لخوض الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2024، وارتفع هذا الرقم إلى خمسين في المائة بعد قرار الاتهام الأول في ولاية نيويورك، ثم 53 في المائة بعد اتهامه في محكمة فيدرالية في ولاية فلوريدا بإساءة استغلال وثائق سرية رسمية حصل عليها أثناء تولّيه منصب الرئاسة.
ويبدو ترامب واثقًا من هذا الدعم القوي الذي يحظى به بين قواعد الجمهوريين، أيًا كانت الاتهامات التي ستوجّه له في كل المحاكمات الجارية حاليًا، وكذلك محاكمة رابعة متوقعة على المستوى المحلي في ولاية جورجيا حيث يُتّهم أيضًا بالضغط على مسؤولي الولاية لتغيير نتيجة الانتخابات ومنح أصواتها في المجمّع الانتخابي لصالحه على أمل هزيمة بايدن والبقاء في البيت الأبيض. وهي ثقة سبق لترامب أن عبّر عنها خلال حملته الانتخابية الأولى في 2016، أيًا كانت الاتهامات التي تواجهه بالقول: "أستطيع الوقوف في وسط شارع فيفث أفنيو (الشهير في نيويورك) وأُطلق الرصاص على شخص ما، لكن لن أخسر أصوات أيّ ناخبين.. إنّ الأمر لا يصدّقه عقل".
سيقول الديمقراطيون إنّ هذه الإحصاءات تخصّ قواعد الحزب الجمهوري فقط، وأنه على مستوى الناخبين الجدد من الشباب وكذلك من يصفون أنفسهم بـ"المستقلّين"، فإنّ الاتهامات المتلاحقة التي تواجه ترامب ستدفع هؤلاء نحو التصويت لبايدن خاصة بعد تحسّن مؤشرات الاقتصاد الأمريكي ومعدلات البطالة وخلق الوظائف. لكن استطلاعات الرأي تكشف أنّ موقف غالبية الناخبين الأمريكيين لم يتغيّر مما كان عليه الحال في 2020، وبالتالي ستكون المنافسة بين بايدن وترامب متقاربة للغاية وسيُعتبر الرئيس الديمقراطي الحالي محظوظًا لو تمكّن من الحفاظ على الفارق الضيّق بمقدار أربعة نقاط والذي سمح له بالفوز في الانتخابات الأخيرة. ورغم رهان الديمقراطيين على زيادة نسبة المشاركة من الشباب الذين يستفزّهم الخطاب المحافظ للجمهوريين بشأن قضايا اجتماعية مثل الإجهاض والهجرة والعنصرية، فإنّ المشكلة الأساسية تكمن في شخصية بايدن نفسه الذي لا يتمتّع بأي كاريزما، بجانب تقدّمه في العمر ونظرة الناخبين الشباب له على أنه سياسي تقليدي ينتمي للمؤسسة الفاسدة المتحكّمة في السياسة الأمريكية، تمامًا كما كان الحال مع هيلاري كلينتون في 2016.
ربما يكون وجه الاستفادة العربية من الانقسام بين الأمريكيين هو تنامي "التيّار التقدّمي" داخل الحزب الديمقراطي
وبينما نُمعن في الحديث عن المؤامرات الأمريكية للتدخل في منطقة الشرق الأوسط وتفتيت دولها، فإنّ الانقسام الحاد القائم منذ سنوات بين الأمريكيين، وتصاعد الخلاف بشأن القضايا الاجتماعية والثقافية وتلك المتعلقة بهوية المجتمع نفسه، لن يعني سوى مزيد من تراجع النفوذ الأمريكي في منطقتنا العربية والاهتمام بالسياسة الخارجية عمومًا. وهذا سيفتح الباب بدوره أمام قادة الدول العربية التي لا تزال تراهن على واشنطن للبحث عن تحالفات جديدة، وترسيخ العلاقات مع القوى الدولية الصاعدة وعلى رأسها الصين والهند، بينما ستبقى روسيا غالبًا في وضع المحاصر بسبب المواجهة المباشرة مع دول الغرب في إطار الحرب ضد أوكرانيا.
وربما يكون وجه الاستفادة الأساسي للمنطقة العربية من الانقسام الداخلي الحاد القائم بين الأمريكيين هو تنامي ما يُعرف بـ"التيّار التقدّمي" داخل الحزب الديمقراطي وفي أوساط الشباب عمومًا، والذي لم يعد يرى في إسرائيل "بقرة مقدّسة" يجب دعمها ظالمة أو مظلومة، والإقرار بأنّ للفلسطينيين حقوقًا متساوية كبشر وعلى رأسها حقّ تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة والتي صارت حلمًا بعيد المنال في ظلّ تجبّر حكومات اليمين العنصرية المتعاقبة على حكم إسرائيل. لكن غالبية الأنظمة العربية المحافظة لا تُخفي تفضيلها لفوز ترامب الذي لا يزعجهم بالحديث عن ضرورة تحسين ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، حتى لو كان الأكثر فجاجة في دعمه للعدو الصهيوني.
(خاص "عروبة 22")