اقتصاد ومال

انتصار الشرعية الاقتصادية على الشرعية الديمقراطية

يبدو أنّ الخطاب الديمقراطي والحقوقي لم يعد يشكلّ أولوية قصوى لدى العديد من شعوب العالم، بما في ذلك شعوب الدول الأكثر تقدّمًا. مما يعني أنّ علاقة الإنسان بالعالم بدأت تأخذ منحى ارتداديًا ضدّ القيم والحرّيات، بالجنوح إلى الرّغبة في رفاه العيش وضمان الأمن الاجتماعي. هذا ما أغفله الحزب الديمقراطي في إعداد برنامجه الانتخابي وترشيح كمالا هاريس لمواجهة دونالد ترامب في الانتخابات الرّئاسية الأخيرة.

انتصار الشرعية الاقتصادية على الشرعية الديمقراطية

إنّ الأزمة الاقتصادية والبطالة والضّغوط المعيشية التي يعيشها الفرد الأمريكي جعلته يضع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في مرتبة ثانوية مقارنة بالأولويات الاقتصادية والاجتماعية التّي ركّز عليها ترامب. لم ينتبه الحزب الديمقراطي إلى أنّ الديمقراطية العالمية تشهد تراجعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث أظهرت تقارير متعدّدة انخفاضًا في المعايير الديمقراطية وزيادة الأنظمة الاستبدادية بدون مواجهات شعبية جدّية.

ووفقًا لتقرير صادر عن المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية في نوفمبر2023، فإنّ نصف دول العالم تشهد تراجعًا في النظام الديمقراطي، وتنشغل أساسًا بالمعيش اليومي. هذا ما أكده تقرير مجلة "الدبلوماسية الدولية" في أكتوبر 2024 الذي أشار إلى أنّ 70 في المئة من سكان العالم لا يأبهون بعيشهم تحت أنظمة ديكتاتورية، بسبب أزماتهم الاقتصادية وتراجع ثقتهم في الأحزاب السياسية وفي الخطاب الديمقراطي والحقوقي.

برزت نظريات موازية مثل نظرية الكفاءة الاقتصادية مقابل الشرعية الديمقراطية واستبدال الديمقراطية بالنموذج الصيني

يعزى تفوّق ترامب على هاريس إلى استغلاله مخاوف الناخبين بشأن التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة وتركيزه على تعزيز الإنتاج المحلي وخلق فرص الشغل، مما جعل الناخبين القلقين من الأوضاع الاقتصادية وهم الأكثرية يتعاطفون مع برنامجه الانتخابي. بمعنى آخر أنّ أفق انتظار الفرد في سياق القفزات التكنولوجية وتحوّل صورة العالم وطبيعة حاجياته، وضع المطلب الديمقراطي والحقوقي الذي كان أساس الثورة الفرنسية، وموضوع عصر الأنوار، والعصب الأساس بالوجود الحرّ للفرد، في منزلة رمادية تحتاج إلى أكثر من تأمل لفهم المآلات العلائقية المستقبلية بين الفرد والدولة. إذ إنّ هناك استعدادًا لتخلّي الأفراد عن الديمقراطية مقابل البدائل التّي تحقّق لهم رفاهية اقتصادية أكبر. وهذا ما أشاعته نظرية العقد الاجتماعي الجديد، إذ يشكّل الأفراد وفق تصوّرها عقدًا اجتماعيًا غير مكتوب مع النخب الحاكمة، يتم من خلاله تبادل جزء من الحرية السياسية والاستقلالية مقابل الاستقرار والرّفاه.

وفي ذلك، برزت نظريات موازية، مثل نظرية الكفاءة الاقتصادية مقابل الشرعية الديمقراطية ونظرية استبدال الديمقراطية بالنموذج الصيني، ونموذج عدم الاكتراث السياسي في الديمقراطية المستقرّة، وغير ذلك من النماذج ذات الدّلالة نفسها. وعليه، من السّطحية اعتبار سقوط كمالا هاريس يعود أساسًا إلى الاستياء من مواقف حزبها تجاه العدوان على غزّة وجنوب لبنان، خاصة استياء الناخبين العرب والمسلمين في ميشيغان.

لقد أدرك ترامب توجّهات الفرد الناخب في أهم الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إذ كان فعل استمالة الرغبة في الرفاه وتجاوز التقشف وشظف العيش، أساس الفوز في هذه الانتخابات. ومنها، الانتخابات البرازيلية سنة 2022 (فوز لويس إيناسيو لولا دا سيلفيا)، والانتخابات الفرنسية (فوز إيمانويل ماكرون)، وانتخابات كوريا الجنوبية (فوز يون سوك يول).

منعطفات سياسية وإيديولوجية كبرى تتآكل فيها الشرعيات الديمقراطية وحقوق الإنسان لتبرز الشرعية الاقتصادية بديلًا 

لكنّ ذكاءه، فضلُا عن محورية برنامجه الاقتصادي، مكّنه من رصد التغيّرات الاجتماعية والثقافية الطارئة في أمريكا واستثمارها في خطابه، وبناء تحالفات قويّة مع منظمات المجتمع المدني ورواد الأعمال وجماعات المصالح المختلفة، بحسّ براغماتي ينطلق من دغدغة الأحاسيس الفردية والإشعار بتقاسم المصالح.

هناك إذن، منعطفات سياسية وإيديولوجية كبرى، تتآكل فيها الشرعيات الديمقراطية وحقوق الإنسان، لتبرز الشرعية الاقتصادية بديلًا، قد تعزّز تأييد الفرد لبعض الأنظمة غير الديمقراطية، وتُحفِّزه على الاستعداد للقبول بنظام يحقق رفاهه الاقتصادي والمعيشي، ولو كان ذلك على حساب حرّياته الأساس.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن