ولأن انتشار سردية علمنة تلك الأنظمة منذ منتصف القرن العشرين وما تلاها من أنظمة أخرى قد صيّرها من المسلّمات الأساسية ليس في الخطاب الإعلامي العربي وحسب، وإنّما كذلك حتّى في تصوّرات العديد من الباحثين، فإنّه حريّ بنا التساؤل عن مدى صحّة وصف تلك الأنظمة بالعلمانية بقطع النظر عن النتائج الأخرى المترتّبة عن سياسات تلك الأنظمة.
النخب السياسية العربية الحاكمة سخّرت الدين لترميم شرعيتها ومحاصرة خصومها السياسيين
ويبدو أنّ التناول السطحي لمفهوم العلمانية الذي يُنظر إليه من زاوية علاقته بالدين هو أحد الأسباب البارزة في ذلك الخلط أو التلبيس القائم بين وصف أنظمة لم يتردّد بعض رموزها في إدخال تعديلات دستورية متتالية لضمان الرئاسة مدى الحياة (التعديل البورقيبي الدستوري سنة 1974)، والعلمانية بصفتها منهج عقلاني في النظر للإنسان ومختلف الظواهر الطبيعية والسياسية والاجتماعية والكونية لتنظيم الحياة الإنسانية. ووِفق ذلك المنهج لم يعد أحد يشكّك اليوم ــ على سبيل الذكر ــ في استقلالية العديد من العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية والقانونية (بتصرف عن بعض مضامين كتاب "التراث والعلمانية: البنى والمرتكزات، الخلفيات والمعطيات" لعبد الكريم سروش).
وتكشف عملية إعادة النظر في مجمل التجارب السياسية العربية المحسوبة على العلمانية أنّها لم تكن كذلك فعلًا حتّى بالمقارنة مع "التجربة الكمالية" في تركيا. فعلى الرغم من حسم مصطفى كمال أتاتورك ومن لحقه من الحكّام الأتراك مواقفهم من الدين والعلمانية، إلا أنّ النخب السياسية العربية الحاكمة ظلّت متذبذبة في مواقفها الحقيقية، فسخّرت الدين عن طريق المؤسّسات الدينية والحزبية والثقافية لترميم شرعيتها ومحاصرة خصومها السياسيين. وقد يتغيّر ذلك التوجّه إلى نقيضه تمامًا حينما تكون في مواجهة ضغوط القوى الدولية الغربية والمنظمات الحقوقية في ملفّ حقوق الإنسان، فترفع وقتها ايديولوجيا "العقلنة والعلمنة".
لا يمكن الحديث عن أنظمة علمانية في العالم العربي بغياب رؤية سياسية تنسجم مع مقتضيات التطوّر المتسارع الذي تشهده الحضارة المعاصرة الذي أثبت بصورة لا تحتمل الجدل أنّ عصر "الزعامة" والحكم الفردي و"سحر الكاريزما السياسية" قد ولّى وانقضى، فأضحى العمل السياسي محكومًا بالمأسسة والاستراتيجيا. واقتصر دور السياسي بهذا المعنى على الإشراف والجانب التقني من خلال اختيار أنسب السيناريوات التي وضعها الخبراء، وزكّتها مختلف المؤسّسات التشريعية والدستورية. فأين كلّ هذا من تجارب عربية كثيرًا ما رفع أصحابها شعارات دولة القانون والمؤسّسات والشفافية والحوكمة، بينما استماتوا للبقاء في الحكم طوال عقود متوالية، ولم ينزاحوا عن السلطة إلاّ بالموت أو بالانقلابات الدستورية والعسكرية؟
لا يخلو من الخداع إرجاع الإخفاقات العربية المتلاحقة إلى أنظمة علمانية كانت في حقيقة ممارساتها أنظمة هجينة
ولعلّ الصفة الجامعة الأنسب لذلك الفصام أو تلك المفارقة الحاصلة بين الشعارات العلمانية التحديثية المرفوعة، والواقع المتعثّر الذي لم يتجاوز "البراديغم" السائد في العصور الوسطى، يمكن اختزالها في معنى "الهجانة". فهي أنظمة هجينة لا تبالي بعامل الزمن ولا بالجمع بين مرجعيات ما من تنائيها بدّ، بسبب ميلها الجارف إلى الحلول السريعة، وعدم استعدادها الفطري إلى التخلّي عن بديهياتها الخادعة حول طرق الحكم والسيطرة على المجتمع.
إنّ إرجاع الإخفاقات العربية المتلاحقة إلى أنظمة علمانية كانت في حقيقة ممارساتها أنظمة هجينة لم تتردّد في تطويع الطقوس والمناسبات الدينية بما يتناغم مع إيديولوجيتها، ويضفي أبّهة موهومة على مراسمها، لا يخلو من خداع ومخاتلة وتلبيس، بدليل أنّه كثيرًا ما يقترن الحديث عن العلمانية في تلك الأدبيات باستحضار مفاهيم الماسونية والإلحاد والشيوعية والاشتراكية والقُطرية. في حين أنّ العلمانية هي التي مهّدت لاحتواء المهاجرين العرب الباحثين عن حياة أفضل بعد أن ضاقوا ذرعًا بأوطانهم، فضلًا عن اللاجئين السياسيين الهاربين من المطاردات الأمنية والملاحقات القضائية، والذين تم منحُهم صفة المواطَنة في تلك الدول العلمانية "الكافرة".
(خاص "عروبة 22")