لم يكن الأشخاص العاديين محطّ اهتمام ومتابعة يومًا، وبالتالي عاشوا في الظلّ ضمن حياتهم الخاصّة أو الحميمية، كذلك كان الحكام والسياسيون قديمًا يُحيطون حياتهم بهالةٍ من السريّة والقداسة، إذ كان الوصول إلى معلوماتٍ عن حياة الملوك والسياسيين محصورًا في دائرةٍ ضيقةٍ من المُحيطين بهم. وحتّى مع تطوّر أدوات الاتصال المرئية مثل التلفاز والمذياع، فقد ظلّ هؤلاء محافظين على حياة الظلّ، باعتبارهم فوق البشر أو "'ظلّ الإله على الأرض"، ولا يتواصلون مع مواطنيهم إلّا عبر خطاباتٍ رسميةٍ محافظةٍ مُعاد مراجعتها وتدقيقها، لتناسب صبغة القداسة والرّصانة والحكمة.
صعود الديكتاتوريات النّاعمة عبر آليات التحكّم الإعلامية والبروباغندا وأدوات المراقبة والسيطرة
أمّا اليوم، ونتيجة زيادة تطفّل الصحافة الصفراء، والصحف الاستقصائية، وشبكات التواصل الاجتماعي، تحوّلت الحياة الخاصة للسياسيين والخطابات غير الرّسمية التي تصدر عنهم في سياقاتٍ مباغتةٍ وانزلاقاتهم الخطابيّة والتفاعليّة عرضًا إعلاميًّا دائم التدفّق، ومادة استهلاكية تجلب الكثير من المشاهدين والمتابعين، وتتدفّق في العقد الشبكيّة بأسلوبٍ يصعب التحكّم فيه أو توجيهه، الأمر الذي أصبح يطرح السؤال حول الأهليّة العقليّة والتدبيريّة والأخلاقيّة للكثير من السياسيين حول العالم، إذ لم يكن غريبًا في السابق أن يَحْكُمَ الحمقى والمرضى وضعاف الشخصية أعظم الإمبراطوريات في التاريخ، مثل نيرون الروماني الذي اتُّهم بإحراق روما سنة 64م، وبيستراتوس اليوناني الذي تظاهر بأنّ آلهةً تدخل معه المدينة.
وفي مثل ما نحياه اليوم من تراجعٍ مقلقٍ لقيم الجمهورية والديموقراطية، في مقابل صعود الديكتاتوريات النّاعمة، عبر آليات التحكّم الإعلامية والبروباغندا، وأدوات المراقبة والسيطرة، لم يَعُد السياسي ذلك الفاعل أو القائد المحنّك القادر على تنظيم شؤون الدولة وتدبير الإصلاحات وحماية الحقوق وضمان الرفاهية، بل تحوّل في الأساس صورةً تُستهلك من حيث طريقة حديثه ومشيه وملابسه ومن يُصافح، وماذا يقول وحتى علاقاته وصلاته الشخصية والحميمة، ونوادره ونُكَته وخرجاته غير المتوقعة. والمُحصل من ذلك، في السابق لم يكن لدى العامة أدوات للوصول إلى الحياة الشخصية للحاكم، كما أنّها لم تُعتبر - أي الحياة الشخصية - ذات صلة بشرعيّته أو سلطته.
الأسواق المالية والفاعلون الاقتصاديون وشركات التكنولوجيا العملاقة أصبحوا يمارسون السلطة الفعلية
أمّا اليوم، ومع زيادة أدوات الاتصال والتشبيك والمراقبة من أي مكان وفي أي زمان، فقد انتقلنا من الحديث عن الجيوبوليتيك إلى البيوبوليتيك أو البيوسياسة التي تربط بين السلوك الخاص للسياسي وصحته وكاريزما حضوره ولغته ومصداقيته أمام العامّة ومدى شرعيته وحكامته. ولم تَعُد الحروب التي يقودها هؤلاء حروبًا جغرافيةً بجيوشٍ عسكريةٍ وترسانةٍ حربيةٍ فقط، بل تحوّلت أيضًا إلى حروب مشهدية ولغوية وإعلامية ورقمية، تُدار من غير مراكز النفوذ التقليدية. ولم تَعُد إرادة الشعوب وصناديق الاقتراع هي التي تُقرّر المصير المشترك للشعب، بل أصبحت الأسواق المالية وأصبح الفاعلون الاقتصاديون وشركات التكنولوجيا العملاقة يمارسون السلطة الفعلية، عبر آليات التحكّم والتزييف والتلاعب بالرأي العام واستطلاعات الرأي ونتائج الانتخابات، ولذلك لُقّب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برئيس البنوك والشركات، كما لُقّب الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس منصّة "إكس"، وليس رجل دولة.
قلّما نعثر على حاكم أو رئيس عربيّ يُمارس السلطة بالشكل العلني المباشر
لكن ماذا عن السياقات العربية السلطوية؟ ولماذا لا نكاد نعثر فيها على استعراضاتٍ إعلاميةٍ ترامبية؟ أو مقابلاتٍ ماكرونيةٍ استفزازية؟ هؤلاء المعروفون على نحوٍ عالميّ بخطاباتٍ مباشرة، صادمة ومثيرة للجدل، وعلنية في الكثير من الأحيان عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة، أين الحاكم العربي من ذلك كلّه؟ مع بعض الاستثناءات التي تشمل أحيانًا وزراء ومسؤولين كبارًا. في المقابل، قلّما نعثر على حاكمٍ أو رئيسٍ عربيّ يُمارس السلطة بهذا الشكل العلني المباشر، أيرجع ذلك إلى عدم حاجته إلى تجديد شرعيته شعبيًّا عبر الإعلام والخطاب كما في الأنظمة الديموقراطية الغربية؟ أم أنّه ببساطة لا يحتاج إلى ذلك التواصل الصاخب، ولا يُحاسَب بالدرجة نفسِها أو لا يخوض في الأصل سباقاتٍ انتخابيةً حقيقيةً ومتكرّرة؟.
(خاص "عروبة 22")