من رحم "المعادلة البوشية"، تناسلت التداعيات الاستراتيجية حول العالم الذي اهتزّت شرائطه الحدودية إنطلاقًا من غزو العراق وإطاحة حكم صدام حسين بجريرة "امتلاكه برنامجًا لأسلحة الدمار الشامل وإقامته علاقات مع تنظيم "القاعدة" وزعيمه أسامة بن لادن". وهما الذريعتان اللتان تبنّاهما ثم اعترف بعدم صحتهما لاحقًا وزير خارجية أميركا السابق كولن بأول، لكن بعد "خراب البصرة".
لكن وقائع الغزو الأميركي للعراق بيّنت أنه ما كان للدبابات الأميركية أن تصل بالسرعة المطلوبة إلى عاصمة الرشيد، إلا بالتحالف بين الولايات المتحدة وإيران كما جحّظه بافتخار محمد علي أبطحي نائب الرئيس الايراني محمد خاتمي. ومنذ تلك اللحظة، باتت الولايات المتحدة بعد احتلالها العراق، دولةً جارةً لدول الخليج والمشرق العربي، تطرق بوّاباتها بالتهويل والتهديد بهدف إخضاعها لمشروع بوش في "الحرب على الإرهاب" وفق عقيدته "من ليس معنا، فهو ضدنا".
محور إيران بقيادة قاسم سليماني كان يقتحم مدن الأنبار وتكريت والموصل بحماية الأباتشي الأميركية
وقد أخذ التخادم الاميركي الإيراني أبعاده الكبرى في عهد الرئيس باراك أوباما الذي أبرم عقد "نكاح المصالح" مع الإسلام السياسي عامة وإيران خاصة والذي أنجب ثورات مشوّهة في البلاد العربية السنّية، فيما أنجبت "الرقصة النووية" بين أوباما وخامنئي اتفاقًا حول المشروع النووي الإيراني وملاحقه الخاصة بتكريس التغوّل الإيراني المتعاظم في عدة بلدان عربية.
وعلى الرغم من أنّ تحقيقات 11 سبتمبر/أيلول لم تكشف عن ضلوع عراقي واحد في أحداثها، فقد سلّمت الولايات المتحدة العراق بكلّيته إلى إيران وفق "دستور بريمر" الذي قلب المعايير والاحصاءات الديموغرافية والدينوغرافية رأسًا على عقب فعبث بمكوّناته ولعب بأحجام الأقليات والأكثريات وفجّر التناقضات الإثنية والقومية والمذهبية التي أفسحت المجال للكونغرس الأميركي كي يصدر "قانون تقسيم العراق" لصاحبه الأصلي برنار لويس.
بهذا المعنى، فإنّ "الفوضى الخلّاقة" التي بشّرت بها وزيرة الخارجية البوشية كوندوليزا رايس، نفّذ برنامجها التفصيلي باراك أوباما الذي أطلق شرارة "الربيع العربي" خلال خطابه في جامعة القاهرة الذي استهله بشيفرة "السلام عليكم" التي تلقفها الإسلام السياسي الذي ركب موجات الثورات المتناثرة يمنة ويسرة مطلقًا شعاره "الشعب يريد إسقاط النظام"، في أكبر عملية مصادرة لأحلام الشباب العربي في التغيير الحقيقي المنطِلق من مكنوناتهم وليس عبر ميكروفونات البنتاغون التي تناوبها قادة الإسلام السياسي السنّي والشيعي توازيًا مع ملاحقة واستهداف التيار القومي العربي برموزه وناشطيه وانكفائهم عن المسرح بفعل الضربات التي تلقّوها في العراق وليبيا واليمن وتونس وغيرها.
ما تقدّم لا يهدف إلّا للتأكيد أنّ خرائط برنار لويس، التي يحفظها بنيامين نتنياهو عن ظهر قلب ويستعرضها على الشاشات والمنابر الدولية، هي في طور الاستكمال فوق بحرٍ من الدماء والأشلاء من غزّة إلى لبنان وسوريا...
نصر الله استشهد مغشوشًا بحقيقة صواريخ إيران "الصوتية" القادرة على "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"
وعلى الرغم من أنّ "طوفان الأقصى" قد أعاد فرض قضية فلسطين على أجندات العالم، وأيقظ الوعي العالمي حول أحقية وعدالة القضية الفلسطينية، فإنّ ساسة إسرائيل نجحوا في جعل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بمثابة "11 سبتمبر/أيلول إسرائيلي"، وبدا كل ساسة الغرب يتقدمهم بايدن يتقاطرون إلى تل أبيب استنكارًا للمحرقة الجديدة التي ارتكبها "الإسلام السياسي السنّي والشيعي" حليفهم في غزو أفغانستان والعراق ثم في الحرب على "داعش" من طرف "التحالف الدولي" بقيادة أميركا من جهة، ومحور إيران بقيادة قاسم سليماني الذي كان يقتحم مدن الأنبار وتكريت والموصل بحماية الأباتشي الأميركية من جهة أخرى.
ثمّة من يعتقد أنّ عهد التخادُم الأميركي - الإيراني قد انتهى بمقتل قاسم سليماني، وثمّة من يعتقد أنه انتهى باغتيال حسن نصر الله الذي عصرته إيران واستثمرته للحدود القصوى، فوالاها وصدّق هتاف قادتها "سنصلّي في القدس"، وأغلب الظنّ أنّ نصر الله استشهد مغشوشًا بحقيقة الصواريخ "الصوتية" القادرة، حسب دهاقنة إيران، على "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف".
ربما لا يفيد الدخول في ماورائيات السابع من أكتوبر/تشرين الأول المتشابهة مع ماورائيات 11 سبتمبر/أيلول لجهة وجود سيناريوهات استدراجية لحركة "حماس"، ليحصل "الطوفان" ثم تبني إسرائيل على أساسه المقتضى. والمقتضى هنا يقودنا مجدّدًا إلى خرائط بنيامين نتنياهو المتناسخة من خرائط برنار لويس في تفكيك المنطقة وتفجير تناقضاتها الإثنية والعرقية والمذهبية، وأول هذه المظاهر الجاحظة في العدوان الإسرائيلي على لبنان، استهدافه ليس لـ"حزب الله" فقط وإنما للبيئة الشيعية بشرًا وحجرًا ومقدراتٍ من الجنوب إلى الضاحية والبقاعَيْن الغربي والشمالي.
عندما دخلت الفصائل الشيعية الموالية لإيران بغداد مع دبابات الاحتلال الأميركي، برّر بعضها ذلك بالقول "الضرورات تُبيح المحظورات"، وسجّلوا سابقةً تشرّع التعاون مع الاحتلال الأجنبي خلافًا لتاريخ الشيعة العرب المشرّف في مناهضة الاحتلال البريطاني وانخراطهم في ثورة العشرين بقيادة الشيخ ضاري المحمود الزوبعي.
مسارعة نتنياهو إلى تهنئة ترامب تعني إلزامه بكلامه عن "مساحة إسرائيل الصغيرة"
في "11 سبتمبر الإسرائيلي" يتبدّى المشهد مختلفًا ومخيفًا، والتغوّل الإسرائيلي التدميري في لبنان لن يقف عند عتبة نهر الليطاني، بل سيتعدّاه للاستثمار في الجغرافيا السورية ومكوناتها الطائفية والمذهبية، من دون إغفال أنّ خرائط برنار لويس تنصّ وبالخط العريض على تقسيم تركيا وإيران وإنشاء الدولة الكردية المشرقية توازيًا مع إنشاء الدولة الأمازيغية المغاربية.
مسارعة نتنياهو إلى تهنئة دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الجديدة، لا تعني مجرّد ركوبه الموجة الترامبية، بل تعني إلزام ترامب بكلامه عن "مساحة إسرائيل الصغيرة التي ينبغي توسيعها" الذي إذا حصل فسيعني أنّ حلم نتنياهو بالتطبيع سينفّذ مع الدول العربية السنّية، التي يراهن على أنها سترفع شعار "الضرورات تبيح المحظورات" أسوةً بما فعله أشياع إيران عام 2003 في العراق.. لكن تبقى لمجريات الأحداث على الأرض كلمتها، وعليها يتوقف استمرار المشروع أو توقفه.
(خاص "عروبة 22")