هذه الهمجية يرتكبها من يعتبر نفسه أكثر تحضّرًا ومدنية، والمدهش أنّ هؤلاء المستوطنين الذين قدِموا بحجّة الاضطهاد والإبادة واستولوا على أراضي السكان الأصليين تحت عناوين أسطورية، لا يتورّعون عن ارتكاب تلك المجازر، ويُطلقون الخطب ويعتلون المنابر في أوروبا وأميركا التي تدعو إلى إبادة السكان فينالون التصفيق والتأييد.
ولا يمكن تفسير ذلك سوى أنه يصدر عن عنصرية مقيتة وجدنا مثيلها في القومية النازية والفاشية، قومية عنصرية استعلائية كارهة للآخر، بالاستناد إلى عقائد أو مذاهب ترفض كل تعدّدية وتدّعي التفوق.
التنوير استُخدم كأداة تفوّق وتميّز وسيطرة
نجد أصول هذه النزعة الإبادية في عنصرية الرجل الأبيض الذي أعطى لنفسه حرّية إبادة سكان أميركا الأصليين، وتدمير حضارات في جنوب أميركا، واستعباد الأفارقة. كل ذلك كان يحدث في عتمة التاريخ قبل أن تنكشف الفظائع التي ارتُكبت على امتداد قرون من الزمن.
والأمر الذي يثير التساؤل، أنّ ذلك كان يحدث مع صعود المذهب الإنساني الذي حملته النهضة الأوروبية، ومع اتساع النزعة العقلية مع سبينوزا (ت.1677) صاحب رسالة في اللاهوت والسياسة، وجان لوك (1704) صاحب مقالتَيْن في الحكم المدني، ودعوته إلى التسامح، وايمانويل كانط (1804) رائد التنوير الألماني وصاحب مشروع السلام الدائم. بل كل ذلك كان يحدث في القرن الثامن عشر مع دعوات ڤولتير وروسو إلى الحرية والمساواة، والثورة الفرنسية، وإطلاق شرعة حقوق الانسان.
فلاسفة العقل والتنوير ليسوا مسؤولين عن الهمجية، لكن لا يمكن أن ننفي أنّ التنوير كان سلاحًا في أيدي المستعمرين الذين اعتبروا أنهم أكثر حرّية من الآخرين وأكثر مساواة من جهة، وأنهم يحملون الايمان الصحيح لمن لا ايمان لهم من جهة أخرى. كما أنّ التنوير الذي كان التعبير الأعلى عن الحداثة، استُخدم كأداة تفوّق وتميّز وسيطرة.
يتجاوز الأمر واقع صراع بين شعبَيْن متجاورَيْن، أو قبيلتيْن متخاصمتيْن تجدان في نهاية الأمر سبيل المصالحة والسلام. إنّه استعمار واستيطان وتوسّع متواصل بمعنى سرقة أراضي الآخرين كما كان يحصل مع المستعمرين الذين يستولون على البلاد ويسرقون إنتاجها ومحاصيلها ويُجبرون الأهالي على تغيير نمط انتاجهم وعاداتهم باسم الحداثة.
من المُقلق أن تكون الحداثة في خدمة همجية عنصرية
لقد ظنّ العالم أنّ الحداثة قد تغلبت على الهمجية، لكن ها هي الهمجية في أقصى وأسوأ صورها. بل إنّ تطور العلوم والتقنيات يجعلها أكثر فتكًا وتوحّشًا، بحيث يمكنها أن تتباهى بمحو المُدن والبلدات والمعالم والمعابد. والأكثر مدعاة للقلق أنّ هذا السلوك ينتقل بالعدوى من بلد إلى آخر، وقد رأينا في العقود الأخيرة أمثلة على هذه الهمجية المتنقّلة من الشيشان إلى القرم ومن أفغانستان إلى العراق.
ولقد رأينا في العدوان الأخير تطوّرًا يتمثّل في استخدام آخر مبتكرات الذكاء الاصطناعي في القتل والجريمة، مما يعني الانفصال التام بين التطوّر العلمي والتقدم الإنساني.
ومن المُقلق أن تكون الحداثة في أبرز تجلّياتها في خدمة همجية بدائية وعنصرية بحيث تنفصل الأدوات عن أغراضها وغاياتها.
(خاص "عروبة 22")