ولنسأل بطريقة ثانية، كم من الأحقاد والضغائن بين الشعوب بسبب الحروب المذهبية، سوف تتراجع بنسبة كبيرة في حالة الاتحاد؟ هذا افتراض مشروع طالما أنّ إقفال الحدود بين الشعوب لم يأتِ إلا بنكبات مجتمعية، من هنا لا بد من قلب الفرضية، التي كانت تسير على منوال خوف الحكومات العربية من بعضها على المستوى الأمني والاستخباراتي، خصوصًا أنّ المنطقة لم تكن على وئام بين مختلف النماذج الفكرية على صعيد النُّخب، منها ما كان له طابع قومي ذو جهاز حزبي أحادي، وإن كانت تعتمد بشكل برّاني على مفهوم المشاركة والانتخابات التي هي معلّبة بطبيعة الحال، لهذا كنّا نرى رئيسًا يبقى في سدّة الحكم لفترة تتجاوز الثلاثة عقود، ويخلفه ابنه الذي يُوَرّث الحكم، وهذا من المفترض أن يتعارض مع أدبيات الثورة... إلخ. وهناك نموذج مشيَخي، على الطريقة القرابيّة بالحكم، إما عاموديًا أي انتقال التوريث عبر الأبناء، وإما أفقيًا أي انتقال التوريث عبر الأخوة.
بالعودة إلى أسئلتنا، فلنتخيّل وجود "قطار عربي" بين الدول، بشكلٍ مادي، هذا الأمر ألا ينعكس على المستوى الرمزي بين الشعوب؟ أي أنّ الانفتاح بين الشعوب ماديًا واقتصاديًا، ألا يؤدي إلى انفتاح الشعوب العربية بين بعضها رمزيًا، على المستوى الفكري والثقافي؟ وهذا احتمال لا يمكن إغفاله، خصوصًا اليوم وما يشكّله الحاضر من تنابُذ وتحارُب واقتتال وتعصب وتكفير.
الدول العربية عليها قول كلمتها إن لم يكن عبر القوة فعبر السياسة والاقتصاد والنفط
لماذا هذا الانفتاح المؤجل؟ إذا قلنا إنّ هذه الأزمة هي أزمة ثقافة، فالموضوع ليس كذلك، خصوصًا أنّ الحدود كفكرة مادية ورمزية، هي واقع (الواقع بمعنى أنها واقعة ربّما فوقيًا وليس تحتيًّا من الناس إنما من القوى) حديث، لأنّ هذه الحدود قد رُسمت ليس منذ مئات السنين، إنما منذ تاريخ قريب، فاتفاقية "سايكس – بيكو" حصلت في 1916، وهي معاهدة سرّية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى. والأهم أنه لم تكن هناك حدود بين تلك الدول بمعنى لا وجود لا لتأشيرة ولا فيزا، وهناك الذاكرة الشعبية لأجدادنا التي تروي كيف كان الواحد يتنقل بين دولة وأخرى قاصدًا العمل أو مكانًا آخر، وفي أحيان عديدة يبقى حيث يعمل فيتحوّل لاحقًا من سوري إلى لبناني، أو من مصري إلى مغربي وهكذا... إلخ.
كانت شعوب المنطقة بعيدة كل البُعد عن الطائفيّة والمذهبيّة، وكان التعدّد هو الغالب بشكل كبير، بين المسلمين والمسيحيين وحتى اليهود، قبل أن تُصَدّر الدول الأوروبية مشكلة المسألة اليهودية ومعاداة السامية إلى بلداننا، وتزرع هذا الكيان الذي لن تصلح المنطقة إلا إذا وجدت دولنا حلًّا لهذه المشكلة، لأنها بالأساس هي مشكلة أوروبية مجتمعية تقوم على روافد دينية وقومية. من هنا فإن تلك الدول سوف لن تدّخر جهدًا بدعم دولة إسرائيل، لهذا فإنّ الدول العربية عليها قول كلمتها، إن لم يكن عبر القوة، فعبر السياسة والاقتصاد والنفط، بدل التنازل المتكرّر، والذي لم يؤدِّ بإسرائيل إلا إلى عدم الاعتراف بالعنصر العربي، وهذا ما نراه ماثلًا من خلال سياسة الفصل العنصري والإبادة الجماعية التي تنفّذ، وبذلك واهِم من يريد أن يرى ازدهارًا وحريةً وتعدّديةً وانفتاحًا بعيدًا عن حل هذه المسألة.
القضية هي قضية تصحيح للخطأ وهو أن تقوم الدول العربية بعملية تطبيع في ما بينها وليس مع ذلك الكيان
إذًا نستنتج أنّ المسألة ليست ثقافية، خصوصًا أنّ شعوب المنطقة كانت تتعايش باستمرار، من دون عنفٍ ولا تكفيرٍ وقتلٍ، واللافت بروز هذه الأدبيات ما بعد مجيء الكيان الصهيوني، لهذا علينا أن نقوم بعملية مساءلة للنُخب الحاكمة لكونها هي المسؤولة عن الناس وعن معاشهم ومآلهم ومستقبلهم، كيف سوف تحل هذه المعضلة، وهي تضع الحدود بين شعوب دول ليس فيها احتلال أصلًا، أليست الحدود هي تأصيل للعنف والغلوّ؟ وهنا يحضر "القطار" المادي والذي سوف ينعكس رمزيًا، لماذا لا يوجد قطار بين الدول العربية وماذا يخدم ذلك؟ وما هي نتائج تلك السياسات؟ وهي سياسات الحدود المادية والفكرية بين الناس، من هنا القضية هي قضية تصحيح للخطأ، وهو أن تقوم الدول العربية بعملية تطبيع في ما بينها، وليس مع ذلك الكيان الذي يفجّر الأنساق العربية من داخلها.
(خاص "عروبة 22")