أُنجزت أعمال تحضيرية مهمّة على صعيد مؤسسات التكامل العربّي، الأمن الاقتصادي والثقافي والتنموي، وبمشاركة القطاعين العام والخاص. فكرة تعميق التكامل الإقليمي، كانت أطلقتها "الأسكوا" عام 2014 في بيروت، لتوفير فضاءات مشتركة في ظلّ عالم أوحد، وتطوّر التعاون الدولي.
الدول العربية محكومة على المدى الطويل بحركة أشدّ وأقوى من التكامل والترابط، لدورها المتزايد في عمل المؤسسات الدوليّة، ولأنّ العلاقات الدوليّة إلى مزيد من التشابك والترابط، ولكون المجتمعات العربية الأكثر نشاطًا وحركيّة. ثم أنّ المشكلات باتت هي نفسها، عالمية وإقليمية في آن، من الحفاظ على السلام والأمن الدوليين (أوكرانيا نموذجًا في اجتماعات جدّة)، إلى البيئة والتغيّر المناخي، حركة الاستثمارات والمبادلات التجارية، الأمن المائي والغذائي، وقضايا عابرة للحدود مثل الهجرة واللجوء والإرهاب، والفضاء السيبراني.
فالعمل الجماعي يفرض نفسه كأفق مشترك عربي، إذ ما تزال تسيطر على العالم ديناميّة تعاون معولمّة، لا تزال تتعرض لتعقيدات، وإخفاقات، ومنحى تنازلي في دول الحروب والأزمات والهجرات (وسط إقفال الحدود المشتركة)، ووسط تمديد الحالات السلطويّة. فيصمّم أصحابها على الإنكفاء، وتعزيز مجتمعاتهم المغلقة. سياقات إيجابية أنجزت مثيرة للإعجاب في مناطق، وعرضة للإحباط في مناطق أخرى (السودان، سوريا، ليبيا، اليمن، العراق، الصومال، لبنان). لكن يبقى التعاون هو الأطروحة والمنحى التواصلي بلا انقطاع، والمتقدّم في وجهته الثابتة، وإن طرأت على مراحله انتكاسات وارتدادات.
للتكامل الإقليميّ آثار إيجابية، أوّلها خفض مستوى الخلافات والنزاعات، وثانيها الأثر على نوعيّة الحكم وعمل المؤسسات
شاهدنا هذا التحوّل الهيكلي الإيجابي في مجلس التعاون الخليجي في برنامج تقدّمي لتنمية الموارد البشرية والمادية، وتطوير بيئة الأعمال، وتقويّة تجمّعات الإنتاج، وتديّث الشراكات والمؤسسات، وفي مجالات الصحة والربط الكهربائي والاتصالات بين دوله كافة، والتعليم والبحث العلمي، والمصارف وأسواق العمل. آليات عمل أنجزت مؤسساتيًا وبتشاركية ديمقراطية بعيدًا عن باراديغم الارتهان المتبادل، مع ترتيب الأولويات والخيارات الاستراتيجية في التخطيط، وتعبئة الموارد المشتركة. كانت فرصة مهمة لتبيان كيف تساهم الحكومات العربيّة والقطاع الخاص وصناديق التنمية في رسم إستراتيجيات لتأهيل الطاقات البشرية العربية المشتركة، والإعمار والحوكمة الرشيدة لمؤسسات الدولة القويّة في مجلس التعاون، والنظم السياسية الداعمة للتنمية / صدى لنداء الشعب العربّي ككل في التحديث. كان يمكن التقاطها على نطاق أشمل برؤية تصبح خطة عربية كبرى للتنمية.
كيف سينجح أي مجتمع في تقبّل الحداثة في مناخات الكسر والكبت والإقصاء والاقتتال؟
إنّ للتكامل الإقليميّ حزمة من الآثار الإيجابية، أوّلها خفض مستوى الخلافات والنزاعات، وثانيها الأثر على نوعيّة الحكم وتحوّل عمل المؤسسات على المستوى الوطنيّ، وعلى قياس الحكم الرشيد على المستوى الإقليميّ. مثل هذا التعاون، ومع توسعيّة رؤية 2030، قد يسمح بإنشاء فضاء أمن اقتصادي واجتماعي مشترك للمواطنيين العرب، وتنشأ معه هويّة عربية اقتصادية واجتماعية حداثيّة، تستند على التجربة الدوليّة (الإتحاد الأوروبي)، في التكامل الإقليمي المتعددة الأطراف والحوكمة والأحكام القانونية المعاصرة. تقديرات تكلفة إعادة الإعمار في ليبيا تصل إلى 200 مليار دولار، وفي اليمن (ما يفوق 300 مليار دولار)، وفي سوريا (من 400 إلى 800 مليار دولار)، في العراق (50 مليار دولار لإعادة إعمار محافظة الأنبار فقط). أرقام البطالة بين الشباب العربي ليست أقل من 30%، لذلك فإن وقف الحروب الداخلية وبناء البشر العربي يبدأ أولًا. من هنا، كيف سينجح أي مجتمع في تقبّل معاير الحداثة وبنائها، ليتطور ويزدهر في مناخات القسر والكسر والكبت والحرمان والإقصاء ورفض الآخر، والاقتتال في مناطق مجاورة؟ والحداثة مصطلح يُعطى للاجتماع السياسيّ والمدنيّ العربي المعاصر.
(خاص "عروبة 22")