يتجاوز حجم المخلّفات النباتيّة والحيوانيّة الزراعيّة في الوطن العربي ٨٩.٦ مليون طن سنويًّا، وهي تمثّل عبئًا كبيرًا ليس فقط على المجتمعات الريفيّة العربيّة، بل حتى على سكان المدن أحيانًا بسبب التلوّث الذي تطلقه وتمتدّ آثاره أحيانًا لمسافاتٍ بعيدة، نتيجة حرق المخلّفات أو التخمّرات الضارّة الناتجة عن تركها على رؤوس الحقول والقنوات والطرق.
وأشارت دراسة للدكتور أحمد عبد الوهاب، الحائز على جائزة مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، إلى أنّ حجم الخسائر الناجمة عن تجاهل إعادة تدوير المخلّفات الزراعيّة النباتيّة وحدها تبلغ حوالى خمسة مليارات دولار سنويًّا، لا تشمل فقط قيمة المنتجات التي يمكن الحصول عليها من إعادة تدويرها وإنما تمتد إلى تكلفة مقاومة آثار التلوّث البيئي الناتج عنها والتي تصل إلى حوالى ٢.٥ مليار دولار سنويًّا.
ويركّز هذا المقال على فرص الاستفادة من إدارة وتدوير المخلّفات الزراعيّة النباتيّة (وليس الحيوانيّة)، باعتبار ذلك ضرورةً مُلحّة لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز الاقتصاد في المجتمعات الريفيّة العربيّة وتقليل التلوّث، مع إمكانيّة التكامل وتبادل الخبرات في ظل تشابه الظروف في العديد من الدول العربيّة.
يمكن تحويل المخلّفات الحقليّة إلى أعلاف غير تقليديّة وأعلاف مركّزة وإنتاج أسمدة عضويّة وطاقة غير تقليديّة
ولكن هذا يستلزم التغلّب على العديد من التحدّيات، منها نقص الوعي بين المزارعين حول الفوائد البيئيّة والاقتصاديّة لإعادة تدوير المخلّفات الزراعيّة بالإضافة إلى الحاجة لتدريب الكوادر لنقل التكنولوجيّات اللازمة للتعامل مع المخلّفات الزراعيّة مع توفير الدعم الحكومي لهذا النهج.
على الرغم من ذلك، فإنّ الصورة ليست سلبيّة بالكامل، وهناك قصص نجاح لبعض الدول العربيّة في التغلب على المشاكل البيئية الناجمة عن بعض المخلّفات الزراعيّة، منها مشكلة قشّ الأرزّ في مصر والذي تُنتج منه البلاد سنويًّا نحو مليون طن. وكان المزارعون خلال موسم الحصاد يقومون بحرقه داخل الحقول ما ينتج عنه كميّات هائلة من الدخان الأسود الملوّث للبيئة والذي عانى منه السكان في كل من الريف والحضر على السواء، حيث كان يؤدّي لتشكّل سحابة سوداء خانقة فوق القاهرة ومدن الدلتا تسبّبت أحيانًا في مشكلات في التنفّس بخاصّة للمصابين بأمراض الجهاز التنفّسي.
هذه المعاناة استمرَّت لسنواتٍ عديدة، ولكن تمّ التغلّب على تلك المشكلة من خلال بناء الحكومة لمنظومة ناجحة لإعادة تدوير قشّ الأرزّ شملت تجميعه وفرمه وكبسه باستخدام الميكنة الزراعيّة ثم الاستفادة منه في تصنيع العديد من المنتجات ذات القيمة الاقتصادية مثل السماد العُضوي والأعلاف غير التقليدية والورق والأخشاب والطوب، بالإضافة إلى تحويله إلى مصدر للطاقة غير التقليدية مثل البيوغاز (الغاز الحيوي).
وقد أدّت تلك التجربة إلى تحويل مشكلة ضخمة، تُلوِّث البيئة والأرض الزراعيّة التي كانت تفقد خصوبتها نتيجة حرق قشّ الأرزّ، إلى مصدر دخل مباشر للمزارع، حيث وصل ثمن طن القشّ المكبوس إلى حوالى ١٩٠٠ جنيه (نحو ٤٨.٥ دولارًا)، كما وفّرت هذه العمليّة فرص عمل جديدة للشباب من سكان المناطق الريفيّة مع بيئة أنظف.
ومن خلال تطبيق تكنولوجيّات حديثة بالقطاع الريفي في العديد من الدول العربيّة يمكن استخدام المخلّفات النباتيّة في إنتاج الأعلاف غير التقليدية والتي يشكّل استيرادها عبئًا اقتصاديًّا ضخمًا على بعض البلدان العربيّة مثل مصر والتي تستورد حوالى ٦.٨ ملايين طن من الذرة الصفراء سنويًّا لإنتاج الأعلاف التقليدية ذات الأسعار المرتفعة ما انعكس زیادةً غير مسبوقة في أسعار اللحوم والدواجن والبيض.
ويمكن للبلدان العربيّة وضع خططٍ متكاملة لتحويل المخلّفات الحقليّة إلى أعلاف غير تقليديّة وأعلاف مركّزة لتحقّق عائدًا يصل إلى حوالى ١٥.٨ مليار جنيه سنويًّا في حالة مصر وحدها.
كما يمكن الاستفادة من المخلّفات الزراعيّة الحقليّة في إنتاج العديد من المنتجات مثل الأسمدة العضويّة، وكذلك مصادر الطاقة غير التقليديّة مثل "البيوغاز" والمنتجات الثانوية الأخرى مثل "البيوشار"، وهو يعتبر من أهمّ الأسمدة التي تساهم في تحسين خصوبة التربة في المناطق الصحراوية، وكذلك إنتاج الكربون النشط و"السيليكا جيل" والتي تدخل في صناعاتٍ عديدة منها الصناعات الدوائيّة.
ومن أهم المخلّفات الزراعيّة الأخرى الملوّثة للبيئة المنتشرة في بلداننا العربيّة، مخلّفات استخلاص زيت الزيتون والتي تشمل بقايا اللبّ والقشور والنوى وهي ثروة حقيقيّة يمكن تدويرها لإنتاج الأعلاف والأسمدة العضويّة ومستحضرات التجميل بالإضافة إلى الطاقات الجديدة مثل "البيوغاز" و"البيوديزل".
كما يمكن أن تصبح مخلّفات نخيل البلح في الدول العربيّة مصدرًا اقتصاديًّا مهمًّا لتنمية القطاع الريفي، وتشمل تلك المخلّفات سعف النخيل ونوى البلح وكذلك مخلّفات التقليم والتي يمكن أن تُستخدم في إنتاج الأعلاف والسماد العضوي بالإضافة إلى استخدامها في مشروعات الطاقة الجديدة والمتجدّدة.
المخلّفات الزراعيّة إما أن تكون مصدر تلوّث وخطر على الصحة أو قد تصبح مصدرًا للدخل وأداة فعّالة لتنمية القطاع الزراعي
وتُعدّ مخلّفات التصنيع الزراعي لمحاصيل الخضار والفاكهة من أخطر المخلّفات لأنها سريعة الفساد والتخمّر وتلعب دورًا كبيرًا في تلويث البيئة. وهي تشمل الأوراق واللبّ والبذور، التي يمكن تحويلها من قنابل بيئيّة موقوتة، إلى العديد من المنتجات ذات القيمة الاقتصاديّة العالية والتي يتم استيراد معظمها من الخارج مثل مستخلصات القشور التي تُستخدم في إنتاج مضادّات الأكسدة والألوان الصناعيّة والمكمّلات الغذائيّة ومستحضرات التجميل وكذلك الأعلاف غير التقليديّة.
إن المخلّفات الزراعيّة هي "سلاح ذو حدين"، فهي إما أن تكون مصدر تلوّث شديد للبيئة وخطر على صحة المواطن أو قد تصبح مصدرًا للدخل وأداة فعّالة لتنمية القطاع الزراعي، كما أنها يمكن أن تخلق قطاعًا جديدًا من الصناعات غير التقليديّة بعضها ذات قيمة مُضافة عالية، وبالتالي توفّر فرص عمل كثيرة ونوعية مع الحفاظ على البيئة.
(خاص "عروبة 22")