كانت الحفلة بمناسبة اختيار أحد الاقتصاديين المصريين للعمل في البنك الدولي، وحضر الحفل كل العاملين بالصندوق والبنك الموجودين بالقاهرة، وعدد قليل من الأصدقاء المقرّبين جدًّا للمسؤول المُحتفى به. وكانت المفاجأة أنّ الأجانب قدّموا أغنيةً هديّةً لصاحب الاحتفال، لم تكن المفاجأة في نوع الهدية، ولكن في أنّ الأغنية كانت على موسيقى أغنية "قولنا هنبني وأدي إحنا بنينا السدّ العالي"، تلك الأغنية الأيقونية التي لخّصت وحفظت وقائع معركة بناء السدّ العالي في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وعلى الرغم من الصدمة تمكّن بعض الحضور المصريين من القول إنّ "صفعة" تمويل السدّ العالي لا تزال مؤلمة لهم.
استُعيدت هذه الذكريات فور إعلان فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية وعودته إلى البيت الأبيض، فوسط عشرات أو مئات التحليلات الاقتصادية والسياسية عن توابع أو كوارث نتيجة الانتخابات الأميركية، غاب عن الكثير في مصر تأثير عودة ترامب على المفاوضات الشاقة للحكومة المصرية مع صندوق النقد.
تمتلك أميركا 16.75% من قوّة التصويت داخل صندوق النقد، فضلًا عن تمتّعها بحق المنع في القرارات المصيرية مثل تغيير الحصص للدول، لأنّ معظم القرارات الهامّة في الصندوق تحتاج إلى دعم 85% من قوّة التصويت، وبما أنّ أميركا تمتلك أكثر من 15% فهي قادرة على منع أي قرار لا يكون على هواها.
وستظل أشهر التدخلات رفض البنك الدولي، أو بالأحرى تراجعه عن، تمويل السدّ العالي بإيعاز أو تعليمات من أميركا وبريطانيا في عام 1956. وكانت الحكومة المصرية طلبت قرضًا من البنك قدره 200 مليون دولار، فضلًا عن قروضٍ أخرى من كلٍ من أميركا وبريطانيا، ولكن مصر رفضت الشروط التعجيزية والمُهينة فلم تكتفِ أميركا وبريطانيا بالانسحاب، بل جرّتا البنك الدولي أيضًا إلى ذلك.
وبعد أكثر من 80 عامًا في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، واجهت مصر الموقف المتعنّت عينه مع صندوق النقد، حسب محافظ بنك مركزي سابق، فقد أخبره أحد أعضاء وفد الصندوق للشرق الأوسط بأنه لا فائدة من التحدّث في شأن قرضٍ في ظل الموقف الأميركي الغاضب مما جرى في القاهرة. وحسب المصدر الذي حضر المفاوضات فيما بعد وطلب عدم ذكر اسمه، فقد "صارت المفاوضات شاقّة وعنيفة مع القاهرة وأُجبرت الحكومة على الموافقة على تعويمٍ كامل لعملتها وبدأت أضخم عملية لتخفيض الدعم". ويُكمل المصدر: "بعدها وقّعت الحكومة المصرية على الاتفاق في 2016، ولو كان الاتفاق تم في عام 2018 لحصلت الحكومة على شروطٍ أفضل، وذلك بسبب العلاقة الجيدة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي"، وتؤكد أجندة المفاوضات ما ذكره المصدر.
فما بين عاميْ 2018 و2020، تمكّنت الحكومة من انتزاع موافقة صندوق النقد على تأجيل إجراءات لها توابع سلبيّة على المواطن مثل تأجيل، لثلاث مرات، قرار خفض الدعم على المحروقات والكهرباء خاصة للشرائح الأقل دخلًا، وبالمثل فإنّ الحكومة المصرية كان لديها الفرصة في المماطلة في تنفيذ بعض شروط الصندوق فيما يتعلّق بتخارج الدولة من النشاط الاقتصادي.
ولكن الأعوام الأخيرة، خصوصًا 2023 و2024، كانت الأصعب والأشدّ في ضغط صندوق النقد على الحكومة المصرية، وربما تكفي الإشارة إلى أنّ مصر رفعت أسعار المحروقات ثلاث مرات في 9 أشهر فقط من العام الحالي.
وأحد الأسئلة التي تبحث عن إجابة وسط طوفان الأسئلة والتوقعات بعد فوز ترامب هي: هل يتدخل ترامب في صندوق النقد أو بالأحرى قراراته الخاصة بمصر؟
تقول الدكتورة عالية المهدي، أستاذة الاقتصاد في جامعة القاهرة، لـ"عروبة 22"، إنّه "يمكن أن تنجح الحكومة المصرية في استغلال العلاقة بين ترامب والسيسي بشكلٍ جيد من أجل أن تتدخل أميركا لتخفيف إجراءات وشروط صندوق النقد الدولي"، معتبرةً أنّ عدم استغلال السنة الأولى من "حكم ترامب" سيؤدي إلى فشل الدولة في كسب دعم الولايات المتحدة على مدار السنوات التالية، لأنّ هناك الكثير من التداعيات والمصالح التي قد تؤثر مع مرور السنوات على قوة الروابط بين الدولتيْن، لذا فالظروف الراهنة هي الأمثل لاستغلال العلاقات بين مصر وأميركا.
وأوضحت الخبيرة الاقتصادية نفسها أنّ "هناك عددًا من الدول التي نجحت، بفضل علاقاتها مع الوسطاء، في الحصول على تخفيفٍ في إجراءات صندوق النقد الدولي، مثل دول جنوب شرق آسيا وبعض دول قارة أفريقيا"، لافتةً إلى أنّ "الولايات المتحدة ودول "البريكس" وتحديدًا روسيا هي أكثر الدول التي يجب أن تستغل مصر علاقتها بها والمصالح التي تربطها بها في المنطقة من أجل أن تعمل كوسيط لمصر عند صندوق النقد الدولي".
من جانبه، أكد الدكتور جودة عبد الخالق، المفكر الاقتصادي، لـ"عروبة 22"، أنّ مصر هي الحليف المثالي بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية وللرئيس ترامب في الوقت الراهن، وذلك بسبب دورها كوسيط في حل النزاع في منطقة الشرق الأوسط، لذا أصبحت مصر هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن تساعد أميركا في أداء هذه المهمة خلال الفترة المقبلة وهو ما يجعل العلاقة أقوى بينهما، لافتًا إلى أنّ "زيادة قيمة القرض من قبل صندوق النقد بعد الحرب التي شنّتها إسرائيل على غزّة تعني أنّ الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى دعم مصر ودورها القوي في حلّ النزاع".
وأوضح جودة أنّ "مصر يجب أن لا تكتفي بالاستعانة بأميركا في الوساطة من أجل تخفيف القيود عليها من قبل صندوق النقد، إذ يمكن أن تؤدي الصين وروسيا دور الوساطة، حيث تمثّلان ورقة ضغط جيّدة على صندوق النقد وتحديدًا يمكنهما التوسّط لتخفيف قيود تسليم مصر الشريحة الأخيرة".
(خاص "عروبة 22")