التصحّر هو عملية تدهور الأراضي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافّة شبه الرطبة. ويُعَدّ عامل الجفاف من أهم مظاهره في المنطقة العربيّة، إذ تنخفض مستويات الأمطار وتزداد درجات الحرارة، ما يؤدّي إلى تدهور الغطاء النباتي وتآكل التربة. وإلى جانب العوامل الطبيعيّة، تساهم الممارسات البشريّة، مثل الرعيْ الجائر والزراعة غير المستدامة والإفراط في استخراج المياه الجوفيّة، في تفاقم المشكلة.
يساهم التصحّر في تفكّك المجتمعات الريفيّة وانتشار البطالة
ليست المنطقة العربيّة عُرضةً إلى التصحّر فقط، بل هي أيضًا واحدة من أكثر المناطق تضرّرًا منه عالميًّا. تشير تقديرات إلى أنّ نحو 75 في المئة من الأراضي القابلة للزراعة في العالم العربي تتعرّض إلى درجة من درجات التدهور، ما يهدّد حياة الملايين ممن يعتمدون على هذه الأراضي للعيش.
وفي ظل هذه التحدّيات، تواجه المنطقة تزايدًا في معدّلات الهجرة الداخليّة، إذ تدفع الظروف القاسية سكّان الرّيف نحو المدن بحثًا عن فرصٍ أفضل.
ولا يؤثر التصحّر فقط في البيئة، بل يمتدّ ليشكّل عبئًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا كبيرًا. يؤدّي التدهور في الإنتاج الزراعي إلى انخفاض الدخل في المناطق الرّيفيّة، ما يزيد من معدّلات الفقر ويعمّق الفجوة بين الرّيف والحضر. كذلك، يزيد التصحّر من الضغط على الموارد المائيّة، ما يفاقم أزمات المياه في المنطقة. ومن الناحية الاجتماعيّة، يؤدي التصحّر إلى تغييرات جذرية في نمط حياة المجتمعات الرّيفيّة. ذلك أنّ السكّان المحليون الذين يعتمدون على الزراعة والرعي يُجبَرون على تغيير مصادر رزقهم، ما يساهم في تفكّك المجتمعات الريفيّة وانتشار البطالة. ويُعَد الأطفال والنساء هم الأكثر تضررًا، إذ يزداد العبء عليهم لجلب المياه أو المساهمة في دخل الأسرة في ظل ظروفٍ شحيحة الموارد.
جهود عربية بارزة
وعلى الرغم من التحدّيات الهائلة، تُبذَل جهود حثيثة لمكافحة التصحّر في المنطقة العربيّة، تتراوح ما بين مشاريع إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة، ووضع سياسات بيئيّة مستدامة، وتنفيذ برامج توعويّة وتعليميّة تستهدف المجتمعات المحليّة.
تبرز هنا "مبادرة السعوديّة الخضراء" وهي جهد وطني طموح أطلقته المملكة العربية السعوديّة عام 2021 لمكافحة تغيّر المناخ وتعزيز الاستدامة البيئيّة من ضمن "رؤية 2030". وتسعى المبادرة إلى تقليل انبعاثات الكربون بأكثر من 278 مليون طن سنويًا بحلول 2030 وتحقيق الحياد الصفري بحلول 2060، مع زراعة 10 مليارات شجرة واستصلاح 40 مليون هكتار من الأراضي. وحقّقت المبادرة إنجازات ملموسة تشمل زراعة ملايين الأشجار وتطوير مشاريع طاقة متجدّدة، مدعومة باستثمارات تتجاوز 700 مليار ريال (187 مليار دولار تقريبًا)، مع تعزيز التعاون بين القطاعات المختلفة لتحقيق أهدافها.
وأطلقت دولة الإمارات العربيّة المتّحدة عدّة مبادرات طموحة لتعزيز الاستدامة البيئيّة، أبرزها "استراتيجيّة الإمارات للتنميّة الخضراء" التي تهدف إلى تحويل البلاد إلى مركز عالمي للاقتصاد الأخضر، و"الأجندة الوطنيّة الخضراء 2030" التي تهدف إلى تحقيق اقتصاد أكثر صداقة للبيئة مع خفض الانبعاثات وتحفيز النموّ المستدام. وتسعى هذه الجهود إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر تعزيز الابتكار البيئي وزيادة كفاءة الطّاقة، مع التركيز على النموّ الاقتصادي المستدام وتحقيق مزايا اقتصاديّة وبيئيّة بعيدة الأجل.
وفي العراق، تُعتبَر أهوار بلاد الرافدَيْن من أهم المنظومات البيئية التي تأثرت سلبًا جرّاء التصحّر والجفاف. هذه الأهوار تعرضت إلى تدهورٍ كبيرٍ خلال العقود الماضية. لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يعمل بالتعاون مع الحكومة العراقيّة لإعادة تأهيل هذه المناطق. وتشمل الجهود وضع قوانين تحمي الحياة البريّة المهدّدة بالانقراض، وتطوير حلول مستدامة لدعم المجتمعات المحليّة التي تأثرت بفقدان مصادر المياه.
في مقدور التكنولوجيا أن تكون حليفًا قويًا في مكافحة التصحّر
وفي لبنان، تتجسّد الجهود في مشروع "تحييد تدهور الأراضي في المناظر الجبليّة"، الذي يهدف إلى دمج الإدارة المستدامة للأراضي في خطط التنمية. ويتضمّن المشروع إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة ومنع تدهور المزيد منها. كذلك، يركّز على إشراك المجتمعات المحليّة في عمليّات التخطيط والتنفيذ، ما يضمن استدامة الجهود وتحقيق فوائد مباشرة للسكّان.
دور تغيّر المناخ
ويزيد التغيّر المناخي من تعقيد مشكلة التصحّر في المنطقة العربيّة. ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدّلات الأمطار إلى تدهور الأراضي بشكل أسرع. وفي الوقت عينه، يساهم التصحّر في زيادة انبعاثات الكربون بسبب تدهور الغطاء النباتي. هذا التفاعل السلبي بين التصحّر والتغيّر المناخي يجعل من الضروري التعامل مع المسألتَيْن بشكل مترابط. وفي مقدور التكنولوجيا أن تكون حليفًا قويًا في مكافحة التصحّر، إذ تُستخدَم تكنولوجيات الاستشعار عن بُعد والذكاء الاصطناعي لرصد التغيّرات في الأراضي وتحديد المناطق الأكثر عُرضة إلى التدهور. وتُعَدّ الزراعة الدقيقة، التي تعتمد على التكنولوجيا لتحسين استخدام الموارد، من الحلول الواعدة أيضًا.
إذا تمكّنت المنطقة العربية من تعزيز المبادرات فلن تحمي بيئتها فقط بل ستؤسّس أيضًا لاقتصادٍ ومجتمعٍ أكثر استدامة
وعلى الرغم من الجهود الحاليّة، ثمّة حاجة ماسّة إلى تبنّي نهجٍ أكثر شموليةً وتكاملًا لمكافحة التصحّر. يتطلّب ذلك تعزيز التعاون الإقليمي والدولي، وتخصيص موارد أكبر لدعم المشاريع البيئيّة، وتطوير سياسات تركّز على الاستدامة البعيدة الأجل. ويكتسب إشراك المجتمعات المحليّة في صياغة هذه السياسات وتنفيذها أهميّة بالغة لضمان نجاحها.
ليس التصحّر في المنطقة العربيّة مجرّد أزمة بيئيّة؛ هو أيضًا تهديد متعدّد الأبعاد يتطلّب استجابة شاملة. تُظهِر الجهود المبذولة حاليًا أنّ التغيير ممكن من خلال التخطيط الجيّد والتنفيذ المستدام. وإذا تمكّنت المنطقة من تعزيز هذه المبادرات والتوسّع فيها، فلن تحمي بيئتها فقط، بل ستؤسّس أيضًا لاقتصادٍ ومجتمعٍ أكثر استدامة.
ليس التصحّر قدرًا محتومًا، بل هو تحدٍ يمكن التغلب عليه من خلال الالتزام والعمل المشترك.
(خاص "عروبة 22")