لقد كان من اللّافت أنّ جيل الإصلاحيّين المحدّثين لم يَستخدم إلّا قليلًا العبارات التي تُفيد في التقليد الإسلامي التحوّل والتغيير، وبصفة خاصة مقولة "التجديد" ومقولة "الاجتهاد"، وهما مصطلحان محوريّان في التّراث الإسلامي الوسيط.
الاجتهاد في دلالته المألوفة لا يتجاوز الترجيح والحسم داخل المذاهب الفقهيّة، بينما ضُيّق مجال التجديد إلى أبعد مدى وحُصِر في الجوانب الروحيّة والأخلاقيّة، لا في الممارسة التأويليّة أو التشريعيّة.
ومن هنا ندرك أنّ سراة التّحديث في المجال الإسلامي مالوا، منذ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي إلى الإمامَيْن جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده، إلى سرديّة الإصلاح التي تُحيل إلى الحركة الرّاديكاليّة التي مرّ بها التقليد المسيحي الغربي منذ القرن الخامس عشر الميلادي.
الدّولة الوطنيّة زادت شحنتها التسلّطيّة القمعيّة ولم تتمكن من ترجمة الهويّة الجماعيّة في نُظُمٍ تداوليّة تمثيليّة
ولا نجد إلّا القليل من المفكّرين المسلمين نادوا بإصلاحٍ دينيٍ جذريٍ في الإسلام على غرار الإصلاح البروتستانتي، إلّا أنهم في مجملهم اعتبروا أنّ مجالات الإصلاح المطلوبة ثلاثة هي: إعادة بناء العقيدة من خلال وضع علم كلامٍ جديد يدفع حريّة الإرادة وقوّة الفعل والنزعة الإنسانيّة، وتجديد مناهج الشرع بالتركيز على مقاصد الدّين وضروراته بما ينجم عنه إعادة بناء المنظومة الفقهيّة بكاملها، وإصلاح المؤسّسات الاجتماعيّة العامّة والأهليّة وبصفة خاصة الدولة والتربيّة والأسرة.
هل نجحت مطالب الإصلاحيّين النهضويّين؟
بخصوص علوم الاعتقاد، لم تتجاوز محاولات الإمامَيْن محمد عبده والأفغاني إعادة صياغة النصّ الكلامي بالانفتاح على العقلانيّة الاعتزاليّة ونظريّات خلق الأفعال والاقتران السببي الضروري. وهكذا بقي مشروع علم الكلام الجديد معطّلًا إلى أن سعى بعض المتكلّمين المتفلسفين الإيرانيّين المعاصرين لإنجازه (مثل عبد الكريم سروش ومصطفى ملكيان ومحمد مجتهد شبستري) من منظورٍ تأويليٍ جريء يستوعب القيَم الإنسانيّة وأفكار التعدّديّة الدينيّة وتاريخيّة الأفكار. وفي العالم العربي، برزت محاولة المفكّر المصري الرّاحل حسن حنفي في بناء لاهوتٍ للثّورة والتحرير على غرار اللاهوت الثوري الكاثوليكي اللّاتيني.
في المجال الفقهي، لم تُفْضِ المقاربة المقاصديّة الجديدة إلى نتائج حقيقيّة في مشروع تجديد الفقه، وتحوّلت في الواقع إلى مقولة إيديولوجية هادفة إلى ما سُمّي بمشروع "أسلمة المعارف" الذي هو في نهاية المطاف قلب تأويلي في التقليد الإسلامي يكرّس القطيعة مع غنى وتنوّع الموروث الشرعي واستبداله بثقافة سياسيّة تدّعي احتكار الشرعيّة التأويليّة للدّين.
الوعي التأويلي هو رهان التغيير بالنسبة للأفراد والمجتمعات
في المجال السياسي الاجتماعي، لا مناصَ من الاعتراف بأنّ هدف إعادة بناء وإصلاح المؤسّسات العموميّة والأهليّة فشل فشلًا ذريعًا، بل إنّ الدّولة الوطنيّة كانت في غالب الأحيان عبئًا ثقيلًا على المجتمع الأهلي، فزادت شحنتها التسلّطيّة القمعيّة بالمقارنة مع الدولة السلطانيّة الوسيطة، ولم تتمكن من ترجمة الهويّة الجماعيّة المشتركة في نُظُمٍ تداوليّة تمثيليّة وتشاركيّة ناجعة.
هل نستنتج من هذه الملاحظات أنّ المشروع الإصلاحي الحداثي فشل في الساحة العربيّة الإسلاميّة؟
ليس من السهل التقرير في المسألة، لكن من المهم الإشارة إلى أنّ الفكر العربي خرج منذ منتصف القرن الماضي من سرديّة الإصلاح إلى سرديّة الثورة في حقبة المدّ القومي واليساري، قبل أن يتحوّل إلى مشاريع قراءة التراث وتأويله في العقود الأربعة الأخيرة.
ما تعنيه هذه التحوّلات هو أنّ المفكّرين العرب المعاصرين أدركوا أنّ هدف الإصلاح المنشود لن يتمَّ عبر التأثير في القيادات الحاكمة كما كان الشأن في عهد الجيل الأوّل من مفكّري النهضة، كما أنه لن يتمَّ من خلال المؤسّسات التربويّة والاجتماعيّة التي يظلّ تأثيرها محدودًا في المجال العام، وإنما يتمّ من خلال العمل على الوعي التأويلي الذي هو رهان التغيير والتحوّل بالنسبة للأفراد والمجتمعات.
(خاص "عروبة 22")