اقتصاد ومال

صناعة السيارات المصرية: جذور الأزمة! هل تُمهّد عودة شركة النصر العريقة لنهضة مرتقبة؟

قبل أن تضع كوريا الجنوبية أول استراتيجية لها لصناعة السيّارات ببضع سنوات، كانت مصر لديها شركتان للسيّارات، تبدوان واعدتيْن، واليوم كوريا هي خامس أكبر مصنّع في العالم للسيّارات، بينما اختفت الشركتان المصريّتان. ولكن الإعلان عن إحياء إحداهما وهي شركة "النّصر" للسيّارات، وخطط إنشاء عدد من مصانع السيّارات الأخرى، أطلق الآمال في أن تشهد مصر نهضةً في صناعة السيّارات.

صناعة السيارات المصرية: جذور الأزمة! 
هل تُمهّد عودة شركة النصر العريقة لنهضة مرتقبة؟

بدأت مسيرة صناعة السيّارات في مصر عام 1960 بشركتَيْن إحداهما خاصّة أسّسها مهندسان مصريّان أنتجت سيارة صغيرة أطلقا عليها اسم "رمسيس"، بنسبة تصنيع محلي بلغت نحو 40% تشمل تصنيع بعض أجزاء الجسم، ووجدت إقبالًا طيّبًا. ولكن تمّ تأميم الشركة لتتراجع التجربة بعد ضمِّها لشركةٍ حكوميّة لإنتاج الدرّاجات البخاريّة، وتوقف إنتاج السيارة عام 1972. وفي عام 1960 أيضًا، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قرارًا جمهوريًّا، بتأسيس شركة "النّصر" لصناعة السيّارات.

في معظم تاريخها، جمعت شركة "النّصر" أجزاء سيّارات "فيات" الإيطاليّة أو سيّارات من دول ثالثة مشتقّة من "فيات"، وكانت سيّاراتها في بعض السنوات تمثّل النّسبة الأكبر من السوق خاصّة في الأوقات التي تمّ خلالها تقييد استيراد السيّارات الأجنبيّة. ولقد عانت الشركة من بعض المشكلات بالجودة، كثير منها ليس بسبب محلّي، ولكن ببساطة لأنّ سيارات "فيات" تاريخيًا عانت من مشكلات بالجودة وأخرى في أداء محرّكاتها في الطقس الحارّ.

تشهد مصر حاليًّا لحظةً مهمّةً تلتقي فيها عدّة عوامل يمكن أن تكون سببًا لإحياء صناعة السيّارات

‏على مدار عقود عملها، لم تستطع "النّصر" الخروج من دائرة التجميع للتصنيع، وعرقلتها مشكلة صِغر السوق المصري وقلّة التصدير، وكأغلب الشركات الخاصّة والحكوميّة في العالم الثالث عانت أيضًا من قلّة الإنفاق على التطوير والتدريب، وضعف التكامل مع مؤسّسات البحث العلمي إضافة إلى البيروقراطيّة. كما عانت من مشكلة تاريخيّة واجهت الصناعة المصريّة كثيرًا، وهي أزمات العملة حيث كان نقص الدولار أحيانًا يُعرقل استيراد المكوّنات، وأحيانًا أخرى أدى تقييم الجنيه بأعلى من قيمته، وتعدّد أسعار الصّرف (ضمن عوامل أخرى)، لزيادة تكلفة إنتاجها أمام المنتجات المستوردة.

مشكلة ارتفاع التكلفة قد تكون أهمّ من مشكلة الجودة، لأنّ جودة سيّارات الشركة لم تكن سيّئة ولم تكن أقل كثيرًا من سيّارات "فيات" الأصليّة، كما أنّ ضعف الجودة لم يكن عادةً عائقًا أمام انتشار سيّارات الشركات الكوريّة والصينيّة في بداياتها لأنّ هذه الشركات كانت تعوّض الجودة الضعيفة بالسّعر التنافسي، إلى أن يؤدي تراكم الخبرات إلى تعميق الإنتاج المحلي وتحسين الجودة.

كما عانت "النّصر" من تقلّب الأوضاع تارّةً بين كونها محتكرةً للسوق، بلا منافس يدفعها للتجويد أو خفض الأسعار، وتارّةً أخرى بفتح الاستيراد بشكل لا تستطيع معه التكيّف، خصوصًا أنّ الطابع البيروقراطي للشركة كان يؤثر في قدرتها على التسويق وفهم تطوّر رغبات العملاء. والمشكلة الأخيرة عادةً تأثيرها أكبر في شركات القطاع العام المصريّة من مشكلات الجودة، فكثير من منتجات هذه الشركات لم تكن تُباع جيّدًا ليس لأنها سيّئة، ولكن لأنها لم تسوّق بحملاتٍ إعلانيّة فعّالة ولم تراعِ تطوّر الأذواق مثل منافساتها من القطاعيْن الخاص المحلّي والمستورد.

وعندما شهدت مصر تدفّقًا للسيّارات الجديدة المستوردة والمجمّعة محلّيًا في بداية التسعينيات، لم تستطع "النّصر" بموديلاتها المستندة لتصميمات "فيات" القديمة مجابهة فورَة السيارات اليابانيّة والكوريّة الأحدث، والأكثر اعتماديّة وحداثة من سيارات "فيات".

تحتاج صناعة السيّارات المصريّة إلى معالجة مشكلاتها التاريخيّة المرتبطة بالجودة

وفي ذلك الوقت، تأسّست في البلاد موجة من مصانع تجميع السيّارات ولكنها مثل "النصر" للسيّارات لم تنتقل لمرحلة التصنيع، على الرغم من أنّها اقتنصت نسبةً كبيرةً من السوق المحلّي تخطّت النصف في بعض الأوقات.

ثم جاء تطبيق اتفاق الشراكة المصريّة - الأوروبيّة عام 2019 الذي أعفى السيّارات الأوروبيّة من الجمارك ليزيد الضغط على صناعة السيّارات المحليّة، خاصةً في ظل غياب ضغوط لدفع المصانع للتحوّل من التجميع إلى التصنيع والتوجّه للتصدير. كما لم تستثمر الشركات في البحث والتدريب، بخاصة أنّ أغلب مالكيها كانوا من كبار وكلاء السيّارات المستوردة، وبالتّالي فإنّهم يعوّضون حصّتهم بالاستيراد من الخارج حتى لو تراجعت مبيعات سيّاراتهم المحليّة.

ولكن حاليًّا تشهد مصر لحظةً مهمّةً تلتقي فيها عدّة عوامل يمكن أن تكون سببًا لإحياء صناعة السيّارات، أولها رغبة حكوميّة في بناء صناعة سيّارات حقيقيّة في ظل أنّ استيراد السيّارات يُعدّ أحد أكبر أسباب استنزاف العملة الأجنبية، يتضافر مع ذلك أنّ تراجع قيمة الجنيه جعل أجور العمالة منخفضة أمام أبرز المنافسين القريبين مثل جنوب أفريقيا وتركيا والمغرب. كما أنّ صناعة السيّارات الصينيّة تبحث عن موطِئ قدم لها في مواجهة القيود الغربيّة. وفي الوقت عينه، فإنّ شركات السيّارات الأوروبيّة في مواجهة المنافسة الصينيّة باتت مقتنعة بأنه لا بديل أمامها عن نقل مصانعها من دول أوروبا الغربية ذات أجور العمالة المرتفعة والطاقة الباهظة إلى دول ذات تكاليف أقل، إضافة للموقع الجغرافي المحوري لمصر، وقلّة المنافسين لها في أفريقيا والعالم العربي.

ويتطلّب بناء صناعة سيّارات حقيقيّة الاهتمام بالتصدير، لأنّ التصدير لا يُعالج فقط مشكلة صِغَر السوق المصري، ولكنه عامل تشجيع إضافي للشركات العالميّة، وحافز للتجويد وخفض الأسعار، كما أنه أفضل مؤشر إلى تنافسيّة المُنتَج.

لم تستطع دولة أن تطوّر مُحرّكًا من دون تكامل بين العلم والصناعة

كذلك يجب تشجيع الصّناعات المغذّية للسيّارات، بتحفيز الشركات الأجنبيّة أو المحليّة الكبرى وكذلك المصنّعين الصغار والمتوسّطين، حيث إنّ لدى بعض المحافظات المصريّة إرثًا مهمًّا في هذا المجال مثل محافظة الدقهلية بالدلتا، ولكن الصنّاع في هذه المناطق يحتاجون للربط بالصناعة الرئيسيّة. كما تحتاج صناعة السيّارات المصريّة إلى معالجة مشكلاتها التاريخيّة المرتبطة بالجودة، خاصة جودة الدهانات، والتي تعزى عادةً لغياب الإنتاج الكمّي الكبير، ولكن ترتبط أيضًا بتدريب العمالة ونقص التكنولوجيا، وهذا يتطلّب إنشاء مراكز للجودة والتدريب والبحث العلمي عبر دعمٍ حكومي، والذي يمكن أن يشمل توفير منح وقروض لتدريب العمّال والمهندسين، وإيفاد بعثاتٍ علميّة للخارج، وأن يكون هناك ربط بين مؤسّسات البحث العلمي والشركات، فلم تستطع دولة أن تطوّر مُحرّكًا من دون تكامل بين العلم والصناعة.

ويُفضَّل تقديم حوافز ضريبيّة للشركات إذا التزمت بتوطين التكنولوجيا وتعميق الإنتاج المحلي، وركّزت على التصدير.

وبالنسبة إلى مسألة إحياء شركة "النصر" للسيّارات الحكوميّة، والتي تخالف الفكر الاقتصادي السائد في العالم حاليًّا المنحاز للقطاع الخاص، فإنها قد تجد لها أسوة حسنة في تجربة صناعة السيّارات الصينيّة التي تقودها بالأساس شركات حكومية، ولكنها اقتبست أساليب القطاع الخاص المرِنة، وتحرّرت من البيروقراطية الحكوميّة التي تتركّز رقابتها على مدى تحقّق الأهداف الكليّة ومحاربة الفساد، وتوطين التكنولوجيا الأجنبيّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن