لقد وضع هذا العالِم الإسلامي مُبكّرًا، أصول علم الرياضيّات، التي تمّ الاتكاء عليها قرونًا فيما بعد، لتصميم أنظمة الحاسوب المرتكزة إلى ثلاثيّة التسلسل والاختيار والتكرار. ثم وضع القواعد الكبرى في مزج الأصفار والآحاد (0 و1)، ليضع بذلك الّلبنة الأولى للثورة الرقميّة التي طاولت تكنولوجيا المعلوماتيّة والاتصالات وتقنيّات الإذاعة والتلفزة والروبوت وما سواها، وطاولت بالتالي كل أنواع التطبيقات المتفرّعة عنها، من تجميع للبيانات وتخزينها ومعالجتها وتحليلها وتقاسمها واستغلالها.
بيد أنّ أبا جعفر، وهو يهيّئ، لربما من حيث لا يدري، للعصر الرقمي الذي نعيش، لم يكن يكترث كثيرًا للتداعيّات الجانبيّة لاكتشافاته ولا لاحتمالات التوظيف السيّء لتطبيقاتها، ووضع ذلك جانبًا باعتباره عالم رياضيّات، ولو أنّه لربما لم يكن ليغفل عن مخاطره باعتباره فيلسوف علوم.
كانت الحرب على غزّة المختبر الفعلي لكيفية إساءة استعمال الخوارزميات التي بنى لها أبو جعفر وأسّس
لم يكن الخوارزمي يتصوّر في زمنه، أنّ إسهاماته في علم الرياضيّات، ولا سيما علم الحساب والجبْر، ستجد لها تطبيقات عمليّة مفيدة للإنسانيّة، في الصحّة والتعليم والاقتصاد والبحث العلمي والبيئة وغيرها. لكنه لربما لم يكن يدرك أنّ توظيف بني الإنسان للتطبيقات عينها، قد يسيء إلى غاياتها ومقاصدها. وقد كانت الحرب على غزّة، المختبر الفعلي لكيفية إساءة استعمال الخوارزميات التي بنى لها أبو جعفر وأسّس.
لقد عاينّا، طيلة أطوار الحرب الضروس على غزّة، كيف عمِلت خوارزميات منصّات التواصل الاجتماعي، على مراقبة المحتويات المتعاطفة مع الفلسطينيّين، وحجبها، وإغلاق صفحات أصحابها على "فيسبوك" و"تيك توك" ومنصة "إكس" و"إنستغرام" وغيرها، ثم الحجر على حسابات "يوتيوب" التي تمّ وسمها بكونها تحرّض على الكراهيّة وتمجّد العنف.
إنّ هذه المنصّات عمدت، ولا تزال، إلى التحكّم في المحتويات المقتنية لبنيتها، من خلال سلسلة من البرمجيّات تحتوي على معادلات رياضيّة معقدة، أوكلت إليها وظائف معينة، منها جزءٌ يخصّ المنصّة والجزء الآخر يخصّ المستخدِم وما يتسنّى له نشره عبرها. وعلى الرغم من توافر سُبُل التحايل على هذه الخوارزميات من خلال تجزيء أسماء الكلمات مثلًا، أو إضافة علامات ترقيمها، فإنّ تحديث البرمجيّات بانتظام، غالبًا ما يكشف تلك الوسائل، فيعتبرها ثغرات برمجيّة سرعان ما يتعامل معها ويقوم بتصحيحها. وعندما تعجز البرمجيّات عينها عن معاينة تلك الثغرات لتحييدها، يتكفّل القائمون على المنصّة بذلك، بناءً على البلاغات التي يمطر بها المتعاطفون مع إسرائيل إدارة هذه المنصّة أو تلك.
هي حرب خوارزميات إذن، تعمل المنصّة في ظلِّها على تقييد المنشورات أو حجبها أو حذفها، ويقوم المستخدمون، في المقابل، على تطوير الأدوات للتحايُل عليها وتجاوز تطبيقاتها. وهي حرب "أكواد" وكلمات مفتاحيّة، يتم تصميمها وتطعيمها ودمجها في عمل الخوارزميّات الآلية، كي "تنفّذ المهمّة" من دون تدخّل بشري كبير.
لم ينحصر الأمر عند مواقع التواصل الاجتماعي، بل ذهبت إسرائيل في حربها على غزّة، إلى حد استعمال خوارزميات الذكاء الاصطناعي للترويج لسرديّتها. فتمّ تحريف الأحداث، ثم تزوير مقاطع الفيديو، ثم خلق الوقائع من عدم، ثم دمج الخيالي بالواقعي لدرجة أنه لم يعد بمقدور المرء معها التمييز بالعين المجرّدة، بين الصورة الحقيقيّة والصورة المركّبة. الخلفيّة الثاوية خلف كل ذلك، تمحورت ولا تزال حول توليد وتمجيد سرديّة القاتل، ثم العمل على طمس واغتيال سرديّة المقتول. خوارزميات اغتيال الحقيقة بامتياز.
تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي على تجميع البيانات الضخمة وتحليلها، بغرض تحديد مواصفات الهدف والوصول إليه بدقّة متناهية. ولذلك، فبرمجيّات أنظمة "لافندر" و"غوسبل" مثلًا، لا تحتاج في حالة غزّة، إلّا لبضع ثوانٍ للضغط على زرّ الموافقة لتنفيذ الضّربة عن بُعد.
ثم هي برمجيّات وُضعت للمراقبة الشاملة (بواسطة "غوغل فوتوز" تحديدًا)، من خلال تحليل البيانات البيومترية للفلسطينيّين المطارَدين، الذين يتم استهدافهم حتى وإن وجدوا في الأماكن المزدحمة، أو من بين ظهراني البنايات الملتصقة بعضها ببعض.
هل كان أبو جعفر يتصوّر أنّ بناءه لأسُس النُظُم الخوارزمية سيفرز هذه التطبيقات "المظلمة"؟
إنّها عملية متكاملة، تشترك فيها برمجيّات تجميع المعلومات الميدانيّة المباشرة، ثم المنصّات الرقميّة وما توفره من صورٍ آنية وخدمات سحابية وتقنيات تعلّم آليّة، ثم برمجيّات لتحليل المعطيات الضخمة المجمّعة، ثم الطائرات المسيّرة الموجّهة بالحواسيب، ثم تقنيّات التحليل الحمضي للتأكّد من أنّ الجهة المستهدفة قد تمّت تصفيتها حقًا وحقيقة.
هل كان أبو جعفر يتصوّر أنّ بناءه لأسُس النُظُم الخوارزمية، سيفرز هذه التطبيقات "المظلمة"؟ لو كان بيننا اليوم، لربما كان سيتحسّر، ولربما يتبرّأ!.
(خاص "عروبة 22")