بقدر ما اقترن الحراك السياسي والاجتماعي الذي شهدته بعض الدول العربيّة مثل تونس ومصر بدايةً من يناير/كانون الثاني 2011 بعودة مكثّفة إلى الحديث عن الحرّيات الفرديّة والعدالة الاجتماعيّة أو الانتقاليّة، فإنّ ذلك الحديث لم يثمر نتائج ذات بال من شأنها إضفاء لبنة جديدة في سبيل تكريس حقوق الإنسان العربي. على النّقيض من ذلك تولّدت عدّة تشوّهات جديدة أضرّت بقضيّة الحرّيات الفرديّة وعمّقت الفوارق الاجتماعيّة، وقضت على الطبقة المتوّسطة. ويمكن الاستدلال على ذلك بالتجربة التونسيّة.
التركيز على مسائل ثانويّة هامشيّة والمبالغة في تضخيمها جعل طرح الحريات الفردية أقرب إلى ترفٍ فكري نخبوي
لقد صدر في تونس خلال سنة 2018 تقريرٌ عن الحرّيات الفرديّة والمساواة تحت إشراف مباشر من رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي. وكان واضحًا أنّ الهدف الأساسي من ذلك التّقرير هو تهيئة الرأي العام التّونسي لمراجعة جذريّة للقوانين والتشريعات التي تعيق الحرّيات الشخصيّة للأفراد بذرائع أخلاقيّة ودينيّة بحكم أنّ المفهوم الذي صاغه ذلك التقرير للحرّيات الفرديّة يعتمد الفلسفة السياسيّة الفرنسيّة مرجعًا أساسيًّا. وعلى سبيل الذكر، تمّ تعريف الحرّية الفرديّة بأنّها "فصل الفرد عن المجموعة (العائلة، القبيلة، المجتمع، الدولة)، إذ هي حقّ يتمتّع به الفرد تعبيرًا عن خصوصيّته، أو حقّ يمارسه من دون اللجوء إلى غيره". (راجع تقرير الحرّيات الفرديّة والمساواة، رئاسة الجمهورية التونسيّة، تونس 2018، ص 24، مع بعض التصرّف).
ولئن كان ذلك الطّرح النظري المفاهيمي للحرّيات الفرديّة مستساغًا، فإنّ التركيز المفرط على مسائل ثانويّة هامشيّة والمبالغة في تضخيمها مثل الحديث عن حقوق المثليّين، والأبناء غير الشرعيّين، والمساواة التّامة بين المرأة والرجل في الميراث قد جعله أقرب ما يكون إلى ترفٍ فكري نخبوي لا علاقة له بحقيقة الواقع التّونسي الذي يهمّ غالبيّة عموم المجتمع. ذلك أنّ المرأة التونسية لا تزال محرومةً حتّى من حقّها الديني والشرعي في نصف ما يرثه الذكر في جلّ الجهات التونسيّة بفعل سطوة الثقافة الذكوريّة والنّظام الأبوي، فضلًا عن انسداد الآفاق المهنيّة وبطالة أصحاب الشواهد العليا.
لم يكن غريبًا إذن إثارة ذلك التقرير ردود فعل عكسيّة وصلت إلى حدّ التظاهر ضدّه في الشوارع والساحات العامة على الرّغم من أنّه في جوهره يسعى إلى تكريس الثقافة الحقّانيّة والشخصيّة الفردانيّة وحمايتها من سطوة المجموعة باعتبار أنّ التجربة التاريخيّة الغربيّة أثبتت أنّ تطوّر الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة يظلّ رهين تحوّل محوري في مفهوم الأفراد والفردانيّة.
لقد كان العيب الأبرز لذلك التقرير أنّه نظر إلى مسألة الحرّيات الفرديّة بمعزل عن مفهومٍ موسّع للعدالة الاجتماعيّة، إذ حصر العدالة في المسألة الجنسيّة والمواريث، وتمتّع قرين المرأة التونسيّة الأجنبي بالجنسيّة التونسيّة آليًّا. بينما كان من المفروض طرح مسألة العدالة الاجتماعيّة في ضوء التحوّلات السوسيوثقافيّة المتسارعة ولا سيما الحركات الاحتجاجيّة المتلاحقة التي أخذت بعد 2011 نسقًا تصاعديًا حتّى في مستوى اكتمال الوعي التاريخي مثلما يعكسه ذلك الشعار البليغ "شغل، حرّية، كرامة، وطنيّة".
لتبنّي مسارٍ أفقي يتزامن فيه تكريس العدالة الاجتماعيّة مع حماية الحرّيات الفرديّة مراعاةً لخصوصيّات المجتمعات العربيّة
إذا كان إجماع الكثيرين حاصلٌ حول أولويّة قيمة الحرّية في إحداث مختلف التغيّرات المطلوبة سياسيًّا وحضاريًّا، فإنّ الواقع العربي واقع مركّب تتقاطع في صياغته عديد العوامل التاريخيّة والجيوستراتيجيّة، لذلك كثيرًا ما اصطدم المناضلون والحقوقيّون والمفكّرون بالفجوة السحيقة الفاصلة بين تطلّعاتهم الحقوقيّة وواقع مجتمعاتهم العربيّة بدليل حالة اللامبالاة التي تَسِمُ ردود فعل الرأي العام العربي في حالات اعتقال المناضلين أو حتّى خلال اغتيالهم رمزيًّا وتصفيتهم جسديًّا.
تفرض هذه المعادلة الصعبة إعادة النّظر في جوهر المطالبة بالحرّيات الفرديّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة وطرقها باعتماد تمشٍّ مغايرٍ لما عرفته التجارب الغربيّة التي ابتدأت بالتنوير مع روسو وفولتير وديدرو، وتوّجت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1789. ونعتقد أنّ ذلك التمشّي يفرض اضطلاع الدولة الوطنيّة ونخبتها السياسيّة بتبنّي مسارٍ أفقي يتزامن فيه تكريس العدالة الاجتماعيّة مع حماية الحرّيات الفرديّة مراعاةً لخصوصيّات المجتمعات العربيّة.
(خاص "عروبة 22")