بصمات

"الحياة معًا" وقضايا التآنس في الفكر العربي المعاصر

لعلّ أسئلة "العيش معًا" والوجه الذي ينبغي أن يعايش عليه وأخلاقيات "العيش سويًا" قديمة قدم الوعي الإنساني، تصريحًا أو تلميحًا، ولكن مع استمرار الأزمات والمشاكل أصبحت أكثر إلحاحًا. إذ لا خيار أمام البشرية سوى التضامن والتعاضد والتعاون، والبحث عن سيرة توافقية لـ"الحياة المشتركة"، ويتحتّم ذلك في زمن الصراعات والحروب والعنف والتهميش ومشاكل اللجوء والأقليات.

على نحو ما يمكننا القول إن الفلسفة كلّها تفكير في الكيفية الأفضل للتعايش والتآنس، انطلاقًا من أرضية الأنا والآخر. نتلمّس ذلك لدى سقراط وأفلاطون وليست "الجمهورية" سوى الإطار النظري للحياة المثالية، وربما يكون أرسطو أول من ناقش فعليًا الحاجة إلى التعاون بين البشر، وبيّن أنّ الإنسان اجتماعي بطبعه. ورغم أنّ مفهوم فلسفة الحياة معًا (philosopher le vivre-ensemble) لم يظهر في الفلسفة القديمة ولا حتى الحديثة، فإنه كان حاضرًا بصيغ مختلفة، يمكن أن نمثل لذلك في الفلسفة الحديثة بأطروحة السلام الدائم عند كانط خاصة فكرة الضيافة الكونية، وكذلك الأمر بالنسبة لهيغل، فرغم إعلانه بوضوح أنّ الاعتراف يمرّ ضرورة عبر الصراع الذي قد يهدّد حياة المتصارعين، إلا أنه ينتهي بالعيش معًا، كما أنّ فلسفات العقد الاجتماعي هي تفكير في فلسفة العيش معًا من منظورات مختلفة.

إلى أيّ حد استطاع المفكرون العرب تبيئة فلسفة العيش معًا؟

وعليه فالتفكير في ضرورات الجوار والمساكنة كان حاضرًا دائمًا، كما أنّ التفلسف في مصير الإنسان وتدبيره لشأنه ليس جديدًا، سواء كان الإنسان "متوحّدًا" أو "متمدّنًا". ولكن ظروف الأزمنة المعاصرة والراهنة جعلت التفكير في فلسفة العيش معًا أولوية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من شروخ وجروح غائرة في الوجدان الإنساني. فظهرت أطروحات فلسفية مختلفة ومتباينة، لكنها جميعًا تدندن حول فكرة العيش معًا، والتسامح وقبول التنوّع والاختلاف والغيرية والتذاوت والصفح. كما نجد ذلك في أطروحة حنة آرندت عن التشارك والفاعلية الإنسانية، وجاك داريدا من خلال الصداقة والضيافة، ويورغن هابرماس عبر الفلسفة التواصلية، وأكسل هونيث في فلسفة الاعتراف.

هل يمكننا التصريح بوجود تفكير عربي في العيش معًا؟ وما مدى وجاهة ومشروعية وجود إرهاصات للتفكير في هذا الموضوع؟ وإلى أيّ حد استطاع المفكرون العرب تبيئة فلسفة العيش معًا؟ ومدى تحرّرهم من سطوة التفكير الفلسفي الغربي الذي أفاض في المسألة؟ الظاهر أنّ الفكر العربيّ المعاصر لم يتنبه لإشكاليات وقضايا التآنس فعليًا إلا في فترة متأخّرة، لذلك لا نجد من قدّم رأيًا مكتملًا في فلسفة العيش معًا إلا في العقد الأخير من القرن 20. مع العلم أنّ فلسفة التعايش ليست غريبة على سياق التداول العربي الإسلامي، فعندما نعود إلى التراث الفلسفي العربي الإسلامي، وحتى إلى اللغة العربية ذاتها، سنجد مادة فكرية ودينية ولغوية ثرية تؤسّس لشروط وأخلاقيات الحياة معًا.

التراث العربي ثريّ بالأفكار التي يمكن الانطلاق منها لتأسيس هذه الفلسفة

ففي الحقل الدلالي اللغوي العربي نجد معجمًا غنيًا بالألفاظ والعبارات القادرة على التعبير بكفاءة عن معاني ومضامين فلسفة العيش سويًا، بل يمكن أن تفتح لنا آفاقًا جديدةً للتفلسف حول هذا الموضوع، نشير هنا إلى عبارات: التراحم والتعارف والتآنس. كما نجد مادة غنية في الدين يمكن أن تُستثمر لبناء فلسفة للتعايش، فقد حثّ على البذل والعطاء وكفّ الأذى والصبر والتعاون على الخير والإحسان إلى الجار.

كما أنّ التراث الفلسفي العربي ثريّ بالأفكار والشذرات والإشارات التي يمكن الانطلاق منها لتأسيس فلسفة الحياة معًا. ونشير هنا فقط إلى أعمال الفارابي وأبي الحسن العامري ويحيى بن عدي وابن خلدون، وبالتحديد الفارابي في تصوّره للمدينة الفاضلة، وابن خلدون في فلسفة العمران. أما الفكر العربيّ المعاصر فعند تناوله فلسفة العيش معًا انقسم إلى اتجاهين: الأول فلسفي والثاني ديني. ونستطيع أن نقول إنّ أهمّ أطروحتين في هذا السياق هما: أطروحة الدكتور فتحي التركي التي تناقش فلسفة العيش معًا انطلاقًا من أرضية الكرامة والحرية، وأطروحة العلامة عبد الله بن بيه التي تتخذ دعوة السلم والسكينة مرجعيةً لها. وسنتناول الأطروحتين بشيء من الشرح والتفصيل في عمل لاحق.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن