من حيث المبدأ، تساعد وكالات التوظيف الأفراد في الحصول على وظيفة تتناسب مع مهاراتهم الفكرية والعلمية والمعرفية كما تؤمّن للمؤسسات والشركات الخاصة، أفضل المرشحين، وفق المتطلّبات الخاصة بهم وما يبحثون عنه في المرشح من مواصفات. وهي بذلك تعمل على ملء الوظائف الشاغرة كما توفّر للباحثين عن العمل الوظائف المناسبة لهم، حتى أنها تقوم بخدمات أخرى تبدأ بكتابة السيرة الذاتية للأفراد ولا تنتهي عند تقديم التدريبات اللازمة لهم من أجل الحصول على الوظيفة.
وكالات التوظيف تصطدم أحيانًا كثيرة بعدم توافر عدد كافٍ من أصحاب الخبرة في مجالات محدّدة ومطلوبة
كنتيجة للظروف الصعبة التي تمرّ بها غالبية بلداننا العربية، من حروب وأزمات إقتصادية ونقدية، نمت هذه الوكالات، وباتت تستقطب الطرفين، أصحاب العمل والباحثين عنه، داخل الدولة وخارجها، كما في فروع المؤسسات وأيضًا عبر وسيلة العمل عن بُعد، فبرزت وسيلة "التشبيك" بين الدول العربية.
لكنها، أيّ الوكالات، تصطدم أحيانًا كثيرة، خصوصًا في الأعوام القليلة الأخيرة، بعدم توافر عدد كافٍ من أصحاب الخبرة في مجالات محدّدة ومطلوبة، لا سيّما الحديثة منها، ما يثبت بوضوح، اتّساع الهوّة بين ما تقدّمه المناهج الدراسية في الجامعات، الوطنية والخاصة (رغم أنّ بعضها أدخل في مناهجه اختصاصات متطورة ومطلوبة) من جهة، وحاجة سوق العمل من جهة أخرى.
ما يشرع الباب أمام التساؤلات عن التعليم في الوطن العربي، مثال: "إلى متى سيبقى التعليم في منتصف سلّم الأولويات العربية إذا لم نقل آخره؟ بينما تضع الدول المتقدمة المناهج التعليمية في صدارة اهتماماتها. ومن ثمّ، وبينما العالم في سباق دائم في مجال تطوير التعليم، هل سنتحرك من أجل اللحاق به وأخذ ما يناسب بلداننا منه أم سنبقى نراوح مكاننا؟ وفي ظل كل هذه التطورات، كيف سيغدو مفهوم التعليم في الأعوام المقبلة؟
لكن، دعونا لا نغرق كثيرًا في العلل التعليمية الكثيرة التي تُعدّ ولا تُحصى، وهي التي لطالما، كانت ولا تزال، في صلب محطات ونقاشات كثيرة بين مفكرين وباحثين عرب لكنها لم تُفضِ إلى أيّ تغيير على أرض الواقع، بل سيتطرق هذا التقرير إلى الوظائف الجديدة التي باتت أكثر طلبًا بفعل التطورات الحاصلة على مستوى المهن التي يُتوقع أن يكثر الطلب عليها مستقبلًا. وهذا ما سيعيدنا حتمًا إلى النقطة الأساس، أيّ إلى المناهج التعليمية وأزماتها.
وظائف مستحدثة
بات من الواضح، أنّ التطور التكنولوجي الكبير، ساهم في خلق تخصّصات وظيفية وأنماط جديدة من الأعمال والمهن، لم تكن حتى وقت قريب موجودة، فبرزت مسمّيات جديدة تختلف من قطاع لآخر، وهي على سبيل المثال لا الحصر؛ "مهندس البيانات" الرقمية أيّ من يقوم بتصميم طرق جمع وتحليل البيانات في المؤسسات، "ضُباط الإنترنت" ومهمتهم حماية البيانات والمعلومات على الإنترنت بعدما زادت عمليات القرصنة وسرقة المعلومات عبر الشبكة العنكبوتية، "التسويق والتسوّق" عبر الإنترنت مع انتشار فهموم تبضّع الزبائن من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
اندثرت وظائف بقيت مهيمنة على سوق العمل لسنين، فكثرت التساؤلات حول "مهن المستقبل"
جميع هذه المهن لها علاقة مباشرة بالتكنولوجيا، وهي خير تعبير عمّا آل إليه العلم والمعرفة والثقافة، مثلما حصل نهاية القرن الثامن عشر مع ظهور الوظائف الصناعية، وكذلك الوظائف المرتبطة بالرقمنة بداية القرن الحالي. كما تبرز راهنًا إختصاصات أخرى مثل "مستشار نفسي"، "مُعلّم عن بعد"، "مهندس الطاقة البديلة"، "مختص طباعة ثلاثية الأبعاد"، "مُبرمج"، "خبير روبوتات" وغيرها الكثير من الوظائف. قراءة بسيطة في هذه الوظائف، تحيلنا إلى التفكير بالاختصاصات التقليدية، المطلوبة إلى حد ما، رغم أنّ من يحملون شهادتها يفوق عدد العاملين فيها بكثير، كاختصاص الحقوق والعلوم الاجتماعية على سبيل المثال.
وفي العقد الأخير، اندثرت وظائف بقيت مهيمنة على سوق العمل لسنين، فكثرت التساؤلات حول "مهن المستقبل" التي ستحلّ مكانها. في حين يتخوف البعض من انقراض الوظائف الموجودة راهنًا، كاستبدال الموظف ببرامج تكنولوجية وروبوتات، بينما يرى البعض الآخر أنّ "الذكاء الاصطناعي" يمكن أن يُحدث تحولًا في هيكلية الوظائف أو يخلق أخرى جديدة.
على مقلب آخر، يؤكد صاحب إحدى شركات التوظيف لـ"عروبة 22" دخول بعض الأفراد عالم "التسويق أونلاين" ويبرعون فيه رغم حيازتهم شهادة جامعية في اختصاص آخر، وهنا تبرز تبعات غياب التوجيه الجامعي ودراسة اختصاصات لا تمّت إلى مواهب الطلاب بصلة، بينما يتخصّص كثر في اختصاصات لا تتناسب والمطلوب في سوق العمل.
الأسوأ استمرار تضييع الوقت في تدريس أبنائنا تخصّصات قد تختفي من أسواق العمل
وهكذا، بدأت ملامح سوق العمل العالمي، والعربي بطبيعة الحال، تتبدّل مع التطورات التكنولوجية المتسارعة، والإعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، لنسأل هنا: كيف سيبدو التعليم والمناهج التعليمية في الأعوام المقبلة؟
أسئلة بالجملة، لا إجابة واضحة لها، هل سنكون بعد عقد أو عقدين أمام مشهد التعلّم الذاتي، عن بُعد؟ فنكون قادرين على التحكّم في وقت التعليم؟ وإختيار المواد؟ وتنفيذ المشاريع العملية ذات الصلة؟ بمعنى أن يصبح التعلّم قائمًا على المشاريع، مع خبرة ميدانية، والسعي إلى تطبيق المعرفة بدل حفظها وتدوينها. ومن ثمّ ماذا عن مواصفات المعلّمين في المستقبل، كأن يكونوا مؤهلين لتعليم الطلاب بأدوات تكنولوجية تطبيقية تُماشي سوق العمل؟
والأسوأ بحسب الخبراء، استمرار تضييع الوقت في تدريس أبنائنا تخصّصات قد تختفي من أسواق العمل بعد سنوات قليلة، فنكون بعيدين كلّ البعد عمّا ستصل إليه البشرية على مستوى التعليم والوظائف، لتتعمّق الهوة أكثر بين المناهج التعليمية وبين الأسواق الوظيفية والمهنية.
(خاص "عروبة22" - إعداد حنان حمدان)