قد تشي مراجعة سياسة ترامب في المنطقة إبّان رئاسته الأولى، بإنجازاتها وفشلها، بالإطار الذي قد يحدّد سياسته حيالها للسنوات الأربع المقبلة.
سياسة إدارة ترامب في ولايته الأولى في الشرق الأوسط قامت على هدفَيْن رئيسين: الأول محاصرة إيران وعزلها اقتصاديًّا عبر تشديد العقوبات القصوى، وسياسيًّا عبر الهدف الثاني وهو بناء علاقات أوثق بين دولٍ عربية رئيسة وإسرائيل، وهو ما تحقّق بما يسمّى باتفاقات "إبراهيم"، التي طبعت العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتّحدة والبحرين والسّودان والمغرب. وجاءت هذه الاتفاقات مصحوبةً بوعودٍ أميركيّة بصفقات أسلحة كبيرة لبعض الموقّعين، وأمل المسؤولون الأميركيّون يومها أن تلحق المملكة العربيّة السّعودية بالرّكب وهي الدولة الأكثر نفوذًا في العالم العربي، وتُطبّع علاقتها مع إسرائيل، وهو الهدف الذي سعى إليه الرئيس جو بايدن أيضًا من دون نجاح.
تعرّضت إيران إلى خسائر يصعب تعويضها بسهولة جرّاء ما أصاب "حزب الله" و"حماس"
بالنّسبة إلى إيران، فشلت سياسة ترامب بسبب تمكّن طهران من التعايُش مع العقوبات القصوى من خلال ترتيب علاقاتٍ وطيدة والى حدّ ما استراتيجية مع الصّين وروسيا وغيرهما من الدول، وتمكّنت بعد عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من حربٍ مدمّرة غير مسبوقة في غزّة من تعطيل توسيع التطبيع العربي - الإسرائيلي ولا سيما مع السّعودية، لكنها عجزت عن تجميد العلاقات بين إسرائيل والدول المُطبّعة سابقًا.
باختصار، توسّعت المسافة نحو التوصل إلى اتفاقٍ سعودي - إسرائيلي نظرًا للغضب الدّاخلي في المملكة وفي الدّول العربيّة الأخرى من المجازر المرتكبة في غزّة. وقال ولي العهد السّعودي الأمير محمد بن سلمان علنًا إنّ على إسرائيل الالتزام بإقامة دولة فلسطينيّة قبل أن تعترف السّعودية بها. وتمكّنت إيران أيضًا نتيجةً لما يحصل، من عرقلة توصّل الرياض وواشنطن لتوقيع اتفاق تعاون استراتيجي عسكري وسياسي واقتصادي بالتزامن مع التّطبيع مع إسرائيل.
كذلك، العلاقات بين إيران ودول الخليج بدأت تتحسّن بعد اتفاق بيجينغ، فالتقى الديبلوماسيّون الإيرانيّون مباشرة مع مسؤولين من السعودية والإمارات العربية المتّحدة ودول الخليج الأخرى. وسافر وزير الخارجية الإيراني إلى عدّة دول خليجيّة بهدف وقف "جرائم" إسرائيل في غزّة ولبنان، حسب وسائل الإعلام الرّسميّة الإيرانيّة. صحيح أن الانفراج هشّ، لكن بالنّسبة لهذه الدول العربيّة، فإنّ هذا الأمر هو ديبلوماسيّة واقعيّة نتيجة إدراك أن الولايات المتحدة تحاول منذ سنوات فكّ الارتباط عن الشرق الأوسط، أقلّه عسكريًا.
مقابل النجاح الإيراني هذا، تعرّضت إيران إلى خسائر يصعب تعويضها بسهولة جرّاء ما أصاب حليفيها الرئيسين في المنطقة "حزب الله" في لبنان و"حماس" في غزّة وفلسطين بعامّة. وفقدت إيران حليفَيْن أحدهما درّة التاج الذي أنفقت عليه مئات الملايين من الدولارت على مدى أكثر من أربعين سنة وكان بمثابة جيشٍ لإيران على حدود إسرائيل ونافذتها على البحر المتوسّط. وما تزال مصمّمة، بكل ما لديها من قوّة، على أن تحافظ على الحزب ودوره في لبنان والإقليم على الرّغم من كل ما تعرّض له ولبنان من خسائر ودمار. اما خسارة "حماس"، فقد أنهت العلاقة التي نسجتها إيران مع الإسلام السياسي السنّي إلى فترة غير معروفة.
مختصر الصورة أنّ إيران فقدت ذراعَيْن رئيسين من أذرعها في المنطقة وباتت معرّضة مباشرة لمواجهة عسكريّة مع إسرائيل بدأت ملامحها تظهر خلال الحرب الدّائرة في غزّة ولبنان. وسقطت بالتالي ثابتة السياسة الإيرانيّة الهادفة إلى نقل الحروب إلى خارجها لتبقى بعيدةً عنها.
لم يعد من الممكن تهميش الفلسطينيين كما حاول جاريد كوشنر فعله عبر "صفقة القرن"
يتردّد كثيرًا أنّ سياسة ترامب في الشؤون الخارجيّة تقوم، كما هي الحال في الأعمال التجاريّة، على مبدأ "عقد صفقة" وهذا ما حاول القيام به بـ"صفقة القرن" التي اعتقد آنذاك أنها المدخل لحلّ النّزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. الاعتقاد أنّ بإمكان إدارة ترامب متابعة سياستها في المنطقة من حيث توقّفت قبل أربع سنوات يُسيء قراءة الوضع تمامًا، فالمشهد الإقليمي تغيّر بشكلٍ كبير منذ أن تولّى منصبه آخر مرة، والمنطقة تشهد منذ أكثر من سنة حربَيْن في غزّة ولبنان من أشدّ الحروب منذ عقود إن لم تكن أعنفها. لقد تغيّرت التحالفات، وتبدّلت الأولويّات وارتفعت حدّة التوتّرات القديمة في بعض الأماكن وخفّت في أماكن أخرى، في حين أنّ عملية "حماس" في إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والحرب اللاحقة في غزّة، غيّرت معطيات وأفكار ووقائع على أكثر من صعيد في الإقليم وخارجه.
اليوم، المساحة المتاحة لأي صفقة تقلّصت لأسباب عديدة أبرزها أنّه لم يعد من الممكن تهميش الفلسطينيّين كما حاول جاريد كوشنر، صهر ترامب، فعله عبر "صفقة القرن" وتكثيف جهود البيت الأبيض لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدّول العربية يومها. اما اليوم فالأمور تغيّرت بعد كل الذي حصل ويحصل في غزّة من جهة، والمتغيّرات في مواقف الدول الصّديقة لإسرائيل وبخاصة الأوروبيّة وكذلك في الولايات المتحدة نفسها الداعم الإستراتيجي للدولة العبريّة من جهة ثانية، مع دعوة الإدارة الحاليّة لحل الدولتَيْن.
إذا صدقت نيّات ترامب بشأن إنهاء الحروب فالأمل ألا تكون صفقات هادفة إلى إرضاء القوي على حساب الضعيف وحقوقه
المستجدّ منذ نهاية ولاية ترامب الأولى هو عودة بنيامين نتنياهو إلى السّلطة ليقود الحكومة الأكثر يمينيّة في تاريخ البلاد تضم غلاة المتطرّفين، مثل بتسلئيل سموتريش وزير المالية، وإيتامار بن غفير وزير الأمن القومي، الذين يطالبون علنًا بطرد الفلسطينيّين من قطاع غزّة وإعادة احتلاله كونه جزءًا من أرض إسرائيل. وهي وقائع لا تصبّ في صالح تقديم أيّ تنازلات ذات معنى للفلسطينيّين كجزء من أي صفقة كبرى في الشرق الأوسط.
هذه الحقائق ينبغي على الإدارة الجديدة التعايش معها، وإذا صدقت نيّات ترامب بشأن إنهاء الحروب، فالأمل ألا تكون صفقات، بل اتفاقات واقعيّة غير مفروضة بالقوّة أو عمليات تجميليّة أو هادفة إلى إرضاء القوي على حساب الضعيف وحقوقه، تولّد حروبًا جديدة قد تكون أشد هولًا وشراسةً من التي سبقتها.
(خاص "عروبة 22")