وهل يمكن الضّغط دوليًّا على أصحاب النفوذ العالمي بلزوم إخضاع التّطوير التكنولوجي واستخدام مصنوعاته بالغة التّأثير، للاختيار والقرار الديموقراطي الحرّ بين شعوب الأرض؟ خصوصًا، وقد أصبح قرارها في أيدي أفراد وجماعات وشركات معيّنة، كثير منهم يُظهرون الجانب البشع للتّكنولوجيا، من خلال منتجاتها السلطويّة القاهرة، عتادًا وبرامج وإجراءات وتطبيقات تمارس التسلّط القاسي على حياة الناس... ولا يهمّ هؤلاء المقرّرين سوى خدمة أنظمة محدّدة سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة، أو خدمة كيانات متحكّمة، وإيديولوجيّات متطرّفة.
ما نشهده من جنون القوّة التقنيّة الإسرائيليّة وقيادتها المتوحشّة خير دليل على ضرورة كبح جماح التّكنولوجيا المنفلتة
لذلك، كثيرًا ما تتجلّى المنتجات التقنيّة بوجه بشري سيّء المنظر... تحتكر الاحتياجات، وتقيّد الحرّيات، وتغوّل القوّة، وتغري بافتعال الحروب والأزمات الخانقة، وارتكاب الجرائم الإنسانيّة، وتوجّه الحضارة البشريّة إلى مآسٍ ومصائر بائسة، وربما خرابها بالكامل، عاجلًا أم آجلًا؟!
والأمثلة كثيرة في التاريخ البشري الحديث والمعاصر... وما نشهده اليوم من جنون القوّة التقنيّة الإسرائيليّة وقيادتها المتوحشّة في فلسطين المحتلّة، وانتشائِها الهمجيّ بانتصارها المخزي على أطفال غزّة، وآثار عدوانها السّافر على الشعب اللبناني، وحلمها الصهيوني المتطرّف بالتوسّع وتغيير خريطة الشرق الأوسط، والهيمنة الإستراتيجيّة على المنطقة بكاملها... كل هذا خير دليل على ضرورة كبح جماح التّكنولوجيا المنفلتة.
في إطار نقد التّكنولوجيا وضرورة انتقائها وخيارها الإنساني، نرى أنّ فلاسفة القرن العشرين لم يُغفلوا هذه المسألة، خاصّة بعد انتهاء الحربيْن العظمييْن. ولو بدأنا مثلًا، بالفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889-1976)، نجده هيّأ المجال خصبًا للجيل الأول من مفكّري "مدرسة فرانكفورت النّقدية" بعد الحرب العالميّة الأولى، والتي اشتُهرت بنقد التّكنولوجيا في المجتمع الرأسمالي والصناعي، وأثّرت في الفلسفة الغربيّة النقديّة المعاصرة أثرًا بليغًا. أكّد هايدغر أنّ العقلانيّة نتاج عصر الأنوار ومحرّك الحداثة، صنعت التّكنولوجيا الحديثة وحوّلت الناس إلى أرقام تديرها البيروقراطيّة الرأسماليّة، كعمليّة إداريّة جديدة للتّكنولوجيا وللإنسان معًا. ومن ثم تتولّد هيمنة التّكنولوجيا، وتتجلّى قوّتها في شتّى منتجاتها ومظاهرها. ولو أنّ جوهر التّكنولوجيا برأيه، ليس شيئًا تقنيًّا؛ فقال بضرورة إدراك الإنسان لاختلاف كينونته، موضوع الفكر والعقل، ورفض ثنائيّة التفكير، ليتمكّن الإنسان من إبراز توحّد كينونته، والتي هي حقيقته ومنقذه في آن.
أُسّست مدرسة فرانكفورت المذكورة في سياق الفكر الماركسي الثّوري الذي ينتقد الرأسماليّة الغربيّة وإفرازاتها الصناعيّة والتقنيّة وسيطرتها على رأس المال ووسائل الإنتاج وقوى التّصنيع، وبالتالي تحكّمها في حاجات الناس، وحرّيتهم، وإبداعهم... بدأ ذلك سنة 1923 على يد الماركسي الألماني النمساوي، من أصل يهودي، كارل غرونبيرغ (1861-1940) بتأسيس "معهد البحوث الاجتماعيّة" في جامعة غوته بفرانكفورت، ووجّه أعماله نحو الدّراسات الماركسيّة لأجل الانتقال إلى النظام الاشتراكي العملي، والذي يراه الماركسيّون حتميّة تاريخيّة بعد النّظام الرأسمالي، ولأن الاشتراكيّة الماركسيّة، بنظرهم، ترتكز إلى العلم والمادة والتجربة الملموسة، فحسب.
غير أنّ الذي أعطى لمدرسة فرانكفورت أبعادها النقديّة الفعليّة، هم مجموعة المفكّرين الذين جاؤوا من بعده، ومعظمهم، بمن فيهم غرونبيرغ نفسه، من أصول يهوديّة، مثل ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركوزه، ووالتر بنيامين، وإريك فروم، وليو لوفينثال...
في هذا السياق، نركّز في بضع مقالات موجزة، على بعض هؤلاء المفكّرين الألمان اليهود المهمّين في الفكر التّكنولوجي المعاصر، بغية التعرّف إلى أهمّ مساهماتهم النقديّة ضد طغيان التّكنولوجيا الصناعيّة، وسياسات الرأسماليّة والفاشيّة والنازيّة والشيوعيّة؛ ثم مقارنة ذلك بما يمارسه طغاة الكيان الصهيوني اليوم من سوء استعمال التّكنولوجيا، في عصر العوْلمة الرّقميّة.
ماكس هوركهايمر (1895-1973)، وزميله ثيودور أدورنو (1903-1969)، قدّما أهم ما في الفكر النّقدي لمدرسة فرانكفورت في جيلها الأوّل المؤسِّس، بخاصة في كتابهما المشترك "جدل التّنوير" (1947). كانت رؤيتهما ماديّة إلى حدٍّ بعيد، وفلسفة تنزع إلى اندماجها في علوم أخرى، مثل علوم الاجتماع والثّقافة والسياسة والاقتصاد والأنثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا والتحليل النفسي والأدبي والفني... ومنذ أن أصبح هوركهايمر مديرًا لمعهد البحوث الاجتماعيّة المشار إليه، في عام 1930، استطاع تطوير هذه الحركة النقديّة، متعدّدة التخصصات، والتي عُرفت باسم "النظريّة النقديّة"، جامعةً بين التخصصات العلميّة المذكورة في توجّه ماركسي تحليلي نقدي. وأصدر هوركهايمر عدّة كتب بهذا الخصوص، من أبرزها: "النظريّة التقليديّة والنظريّة النقديّة" 1937؛ و"نقد العقل الأداتي" 1967؛ و"النظريّة النقديّة" 1972.
لا بد من إنقاذ الناس من التسلّط التّقني بمختلف أشكاله
كان هوركهايمر يسعى إلى دمج فلسفة التّاريخ بالعلوم الاجتماعيّة الأخرى، بمعنى ربط معياريّة المجتمع بحركة التّاريخ، الذي أصبح رهينًا للآلة التقنيّة الصناعيّة الرأسماليّة. كان صارخًا بشدّة في وجه ماديّة الآلة "العقلانيّة"، وقال بضرورة تحوّل أسطورة العقلانيّة النفعيّة إلى قوّة ماديّة تغيّر العالم إلى الأفضل والأمثل الذي يحرّر الإنسان من قهر وتسلط التقنيّة، وهيمنتها الطاغية، وبذلك رفض ما أسماه "طغيان العقل الأداتي". إنه العقل "التقني" المستخدم على نطاق واسع في المجتمع الغربي، والذي أصبح يولّد الأشكال المختلفة للسيطرة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، والتي بدورها تديرها الدولة الرأسماليّة الصناعيّة التي حوّلت قوى المجتمع إلى بنى استهلاكيّة. إذن، لا بد من تغيير المجتمع، وإنقاذ الناس من التسلّط التّقني بمختلف أشكاله.
(خاص "عروبة 22")