هنا أخذ المنفلتون من سياج العروبة، دول وجماعات وطوائف، يبحثون عن مظلات خارجية يستقوون بها على شركاء أوطانهم، وعن حلفاء إقليميين يكسرون من خلالهم محرّمات أمّتهم، ويدوسون مقدّساتها.
يتجاهل هؤلاء جميعًا أنّ الانتماء القومي قدر تاريخي لن يغيّره الإعلان، ولو مدفوع الثمن في صحف غربية، أنهم لم يعودوا عربًا. قد يجد العرب المارقون تشجيعًا لمسلكهم من خصوم أمّتهم، لكن ذلك لا يعني تحالفًا صادقًا معهم بل استدراجًا خبيثًا وتوظيفًا نفعيًا لهم ضدّها ولو بمزايا مؤقتة، سيفقدونها حتمًا عندما تنتهي أدوارهم، وينزل الستار على مسرح أوطانها الخربة؛ فالمهرولون إلى أحضان الخصوم، لن يُنظر إليهم باعتبارهم غير عرب بل كعرب مُحبطين، يدفعهم إحباطهم إلى الاستقالة من التاريخ، وعندها يتم تخفيض شروط التعامل معهم إلى درجة الإرغام.
عالمنا العربي، منذ سقوط بغداد، دخل في حالة تيه ثقافي وضياع استراتيجي
يقع هؤلاء المنفلتون في أسر لحظة قنوط تاريخي تشبه تلك التي عاشتها أوروبا، سواء بعد الحرب العالمية الأولى، حيث نمت الأفكار التشاؤمية حول أفول الغرب، بفعل فقدان الحيوية الدافقة في شرايينها، كما نظَّر أوزوالد اشبنجلر في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين. أو بعد الحرب الثانية وانهيار القارة العجوز، حيث ازدهرت مدارس العبث واللامعقول في الأدب والفن، والوجودية الملحدة في الفلسفة، فكتب كولن ويلسون عن سقوط الحضارة، وآخرون عن نهاية المعنى وضياع الإنسان، لأنّ سؤال الهوية كان محاطًا بمركب من الشكّ طال كل المستويات، فلم يترك فرصة للحديث عن أي يقين مستقبلي.
تجاوزت أوروبا لحظتها العدمية، خلال عقدين تقريبًا، ليس فقط لأنّ الولايات المتحدة كرّست طاقتها لإعمارها عبر مشروع مارشال، بل لأنّ أوروبا نفسها، هي التي كانت صاغت وجسّدت لقرون عدة تقاليد الغرب الكلاسيكية: الفلسفية والمعرفية والسياسية، وتمكّنت بفضلها من أن تتبوّأ قمة هرم القوة والثروة العالمي، ومن تسمية العصور الثقافية المعتمدة في تاريخ الفكر الإنساني: النهضة، الأنسنة، التنوير، الحداثة، فاستقرّ لديها شعور عميق بالجدارة التاريخية.
أما عالمنا العربي، منذ سقوط بغداد، فدخل في حالة تيه ثقافي، وضياع استراتيجي، بفعل أمرين أساسيين:
أولهما؛ افتقاد الشعور بالجدارة التاريخية، لأنّ التقاليد الثقافية الكبرى المؤسسة لنهضته الأولى صارت بعيدة في كهوف الزمن العتيق، ولأنّ التقاليد الحديثة لديه ظلّت محض قشور على سطح وعيه قابلة للنفي، وعلى هامش وجوده قابلة للشك.
وثانيهما؛ افتقاده المتزايد لدولة حيوية، تملك الإرادة والقدرة على لعب دور الرافعة التاريخية، وهو الدور الذى لعبته مصر أغلب عقود القرن العشرين، حينما امتلكت ربع كتلة العرب السكانية، ونصف قوتهم الاقتصادية، وثلثي طاقتهم الثقافية، وثلاثة أرباع قوتهم العسكرية. غير أنها أفرطت في إنفاق مواردها على صراعات ليست ضرورية أثقلت كاهلها، فكانت هزيمة يونيو التي شغلتها بنفسها، واستهلكت طاقتها في مجرد تجاوز محنتها عبر انتصار أكتوبر الذي أتاح لها إمكانية العودة. ولكن عندما أخذت طريق العودة كان العالم أخذ طريق التغيّر، فعجزت عن ملاحقته بعد فقدانها جلّ عناصر قوتها الشاملة، وتضخّم ديموجرافيتها التي صارت عبئًا عليها.
مصر تعاني من استبداد سياسي... وعلى العرب المخلصين دعمها لا إدارة الظهر لها
وهنا تنمو قراءة ذرائعية يستبطنها العرب المارقون والأعداء المحيطون، وهي أنّ القومية العربية انهزمت أمام العقيدة الصهيونية، كما هُزمت الإيديولوجية الشيوعية أمام الرأسمالية، وكأن العروبة، بكل عمقها التاريخي، مجرد إيديولوجيا سياسية قابلة للتلاشي. وكما تداعى نمط الحياة السوفيتي أمام الأمريكي بامتداد العالم، فالواجب على العرب أن يسلّموا قيادتهم لإسرائيل، باعتبارها القطب المنفرد في الإقليم. وكما تمّ تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا، جرت محاولات لتفكيك الكتلة العربية حول مصر.
ومن ثم تنتهي القراءة المعادية للعروبة إلى معاداة مصر جوهريًا، كما ينتهي القول بنهاية العروبة إلى القول بنهاية الدور المصري عمليًا. أعلم كم تعاني مصر الآن من استبداد سياسي وهشاشة إستراتيجية، ولكن المؤكد أنه لا بديل لها، ما يفرض على العرب المخلصين دعمها لا إدارة الظهر لها، فالأبناء الذين يتنكّرون لأمهم لا يشفع لهم أنها ليست الأجمل بين النساء!.