بنيامين نتنياهو؛ المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية ليس سياسيًا عابرًا، فهو شَغَلَ منصبه هذا على رأس السلطة في إسرائيل ثمانية عشر سنة كاملة، ما يجعله أطول من شَغَلَ هذا المنصب في تاريخ الدولة العبرية، حتى لو قارنّاهُ بالآباء المؤسّسين (بن غوريون أمضى ما يقرب من 13 عامًا، في حين لم يتجاوز إسحاق شامير الثماني سنوات).
نتنياهو أيضًا وصل إلى منصبه هذا عبر سَتّ انتخابات كانت أوّلها عام 1996 ليبدأ فترته الأولى بخطواتٍ مُمنهجةٍ لتقويض مسيرة "أوسلو" التي لم يكن مضى على توقيعِها أكثر من ثلاث سنوات، ولتشهد فترته الأولى أيضًا محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان، في ازدراءٍ واضحٍ لمعاهدة السلام مع الأردن (1994) التي لم يكن حبرها قد جفّ بعد. ولكنّه بنيامين نتنياهو، أو بالأحرى "العقلية" التي يمثّلها، والتي لا تعدّ تصريحاته الأخيرة حول إسرائيل "الكبرى"؛ وإن بدت "مفاجئةً" لبعضنا، غير تجسيدٍ واقعيّ لتلك العقلية "الحاكمة".
حديث "إسرائيل الكبرى" لا يختلف عن حديث "Lebensraum" الذي تبنّاه الرّايخ لتوفير "المجال الحيوي" للشعب الألماني
في المنظور الديني اليهودي التقليدي، الذي تسرّب بعض أفكاره إلى الصهيونية السياسية، يُستخدم مُصطلح "إسرائيل الكبرى"، أو أرض إسرائيل "الكاملة غير المجتزأة" - Eretz Yisrael HaShlema (وهو التعبير الأكثر شيوعًا بين السياسيين)، للإشارة إلى تصوّرٍ توسعيّ لدولة إسرائيل يتجاوز حدودها المعترف بها دوليًا، ويستند غالبًا إلى تفسيراتٍ دينيةٍ وتاريخيةٍ للنصوص التوراتيّة، وخصوصًا سفر التكوين 15:18-21. وهذه الأرض، وفقًا للتفسير الأغلب، تشمل إلى جانب كامل فلسطين التاريخيّة، مناطق واسعة أخرى من الشرق الأوسط، منها أجزاء من مصر، الأردن، سوريا، العراق، وحتّى الخليج العربي (في بعض التفسيرات التي تأخذ بحرفيّة النصّ).
ربّما كان من باب المفارقات التاريخية اللّافتة، أنّ حديث "إسرائيل الكبرى"، أو "أرض الميعاد"، إنْ شئنا دقةً في المصطلح "المُتوارث"، لا يختلف في منطلقاته الفكرية والعقائديّة (دعك من الأساطير الدينية) عن حديث "Lebensraum" الذي تبنّاه الرّايخ الثالث (ألمانيا النازية) لتبرير التوسّع شرقًا نحو بولندا وروسيا لتوفير "المجال الحيوي" للشعب الألماني. كلاهُما استند إلى سرديةٍ عِرقيةٍ وقوميةٍ (أو دينيةٍ) تفترض "الحقّ التاريخي" لشعبٍ "مُختار".
"الواقعَ" يقول إنّ هذا المفهوم حاضرٌ بقوة في السياسات والمخطّطات التي يجري تنفيذها على الأرض
وربّما كان من باب المفارقات أيضًا أن نقرأ في مطبوعةٍ عربيةٍ بارزةٍ، وقبل أسبوعَيْن فقط من حوار نتنياهو، مقالًا لأستاذ تاريخٍ أميركيّ، يذهب فيه إلى القول إنّ الحديث عن "إسرائيل الكبرى"، وبغضّ النظر عن أفكار زئيف فلاديمير جابوتنسكي (Vladimir Ze'ev Jabotinsky) هو "محض دعاية سوداء يروّجها معادو السامية". لا بأس، ففي فوضى "بروباغندا التصنيفات"، التي ذهبت إلى حدّ اتهام مسؤولي الأمم المتحدة في تصريحاتٍ إسرائيليةٍ رسميةٍ بمعاداة الساميّة، ربّما نجد مَن يتهم بنيامين نتنياهو ذاته، الذي تحدث عن "إسرائيل الكبرى" بالتهمة ذاتِها. لا تستغربوا!.
صحيحٌ أنّ بين السياسيين الإسرائيليين، مثل إيهود أولمرت من يرى أنّ المصطلحَ لم يَعُدْ واقعيًا أو "مُعاصرًا"، إلّا أنّ "الواقعَ" الذي نعيشه يقول لنا كلّ يوم إنّ هذا المفهوم حاضرٌ بقوة ليس فقط في الخطاب السياسي "الحاكم" في إسرائيل، بل في السياسات والمخطّطات التي يجري تنفيذها على الأرض، بدايةً من التوسّع/التوغّل الاستيطاني، وليس نهايةً بقرارات الضمّ أو محاولات فرض السيطرة والهيمنة على الإقليم بأكمله، سواء بالتدخل العسكري السافر، مثلما هو حادث في سوريا ولبنان، أو بما هو معلن من مخطّطاتٍ لشرق أوسطٍ جديدٍ يكون فيه للدولة العبرية الهيمنة المُطلقة، وهو ما عبّر عنه نتنياهو صراحةً وتلميحًا غير مرّة.
لا غرابة بالمرّة فيما سمعناه من نتنياهو في حواره التلفزيوني هذا عن "إسرائيل الكبرى"، فالأمر في جوهره لا يختلف كثيرًا عمّا كان قد دَرَجَ على استخدامه من تعبيراتٍ مشابهةٍ مثل "أرض الأجداد" أو "الحقّ التاريخي"، كما أنّها، وربّما هذا هو الأهمّ، لا تُعدّ أكثر من تجسيدٍ "لفظيّ"، ليس فقط لأفكاره، بل لسياساته، ومخطّطاته المعلنة، إن لم يكن للاحتلال العسكري المباشر لهذه المساحة من الأرض أو تلك، فللهيمنة الكاملة على الإقليم كلّه.
غير بعيدٍ بالمرّة ما سمعناه من نتنياهو على القناة الإسرائيلية قبل أيام، عمّا سمعناه من الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فبراير/شباط الماضي، حين أشار إلى قلمٍ على مكتبه قائلًا: "انظروا إلى هذا القلم، وقارنوا مساحة إسرائيل بمساحة الشرق الأوسط. إنّها أصغر بكثير ممّا ينبغي". لم يكن هذا التصريح الترامبي الاستعراضي الفجّ الأول من نوعه لصاحب صفقة القرن، والاتفاقات الابراهيمية/الصهيونية. فهو قال قبل ذلك (أغسطس/آب 2024) ما نصّه: "مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها".
وبعد،
فدعك من الجغرافيا، وهذا الجدل العقيم حول النيل والفرات "والحدود السياسية"، التي يتوهّم البعض أنّها محميّة بموجب المعاهدات والاتفاقات، التي لم تحترمها إسرائيل أبدا.
"إسرائيل الكبرى" مشروع إسرائيلي قديم وهو المخطّط الذي أربكه وعطّله ما جرى في السابع من أكتوبر
إسرائيل "الكبرى" ليست فقط المساحة الجغرافية (الواضحة على الخريطة) ما بين النيل والفرات، كما يقول الصهاينة، أو كما قد نتجادل في عالمنا العربي حول واقعيّة الهدف/الحلم، وفاعليّة المعاهدات والاتفاقات. بل، وربّما كان ذلك هو الأهمّ: إسرائيل الكبرى هي مساحة "الهيمنة" الإقليمية (غير الواضحة لقصار النظر)، والتي أشار إليها نتنياهو "بوضوح" في تلك المقابلة "الكاشفة/الفاضحة" حين أشار إلى الاتفاقات الإبراهيمية على أنها "فرصة تاريخية لإعادة رسم حدود المنطقة"، موضحًا أنّها (أي "الاتفاقات الإبراهيمية") ليست نهاية المطاف، بل "بداية لشرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل في موقع القيادة"، هكذا قال نصًّا، وهذا، تحديدًا هو ما سبق أن نبّهنا إلى خطورته غير مرةٍ في أكثر من مقالٍ في هذا المكان.
"إسرائيل الكبرى"، أو الشرق الأوسط الجديد إن شئنا عنوانًا أكثر ديبلوماسيةً، هو بالمناسبة مشروع إسرائيلي قديم، أشار إليه نتنياهو بنفسه وبوضوح في خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر/أيلول 2023)، وهو المخطّط الذي أربكه وعطّله (وإن إلى حين) ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لو أحسنّا النظر والتقييم، وأعدنا قراءة النوايا "القديمة"، التي كانت دومًا واضحةً، ولكنّنا لم نكن نريد أو نحب أن نراها.
(خاص "عروبة 22")