فإذا كان الإله الواحد، العادل، القادر على كل شيء، يحتضن العبد المؤمن ويمنحه الرّعاية، مثلما يصبر على الفاسق ويُلهمه التّوبة، فإنّ الدّولة الوطنيّة المتمدّنة، الحرّة والعادلة، تحتضن جميع مواطنيها، ولا تميّز بينهم دينيًّا ومذهبيًّا، تمنح للموهوب القادر على المبادرة حرّيته، وللفرد العادي فرصته، وتمدّ على الضّعيف سقوف حمايتها. وكما فرض الله الزكاة والصدقات كفالةً للفقراء والمحتاجين، تفرض علينا الدّولة الرّسوم والضّرائب كفالةً للمرضى والمعوزين.
تضع الأوطان دساتيرها بتوافق جموع مواطنيها، ليصبح دستور الوطن هو كتابه المقدّس، يستلهمه في صنع قوانينه، ويحتكم إليه في حلّ خلافاته، والويل لكلّ من يهدره، فالخروج عليه هتك لروح الجماعة وعدوان على ضميرها، إنّه هرطقة سياسيّة تشبه الهرطقة الدينيّة.
تقديس الوطن لا يعني الإقصاء باسمه أو الاستعلاء على غيره
كما أصبحت أعلام الدّول بمثابة مآذن حديثة، توازي وأحيانًا تتفوّق على المآذن التقليديّة في المعابد والكنائس والمساجد، ترتفع فوق كل الشّرفات وعلى كل المؤسّسات طوال الأيام، يتمّ التلويح بها خصوصًا في الأعياد الوطنيّة وفي ذكرى الانتصارات العسكريّة، وأحيانًا الرّياضيّة، مثلما تُنكّس في أيام الهزيمة والانكسار تعبيرًا عن الحزن والحداد. كذلك تصنع الأوطان لنفسها أناشيد تتغنّى بها، وتضع لها موسيقى تشبه التّرانيم الكنسيّة، والتّراتيل القرآنيّة، كي تشنّف الآذان وتثير الخشوع في جموع المواطنين الذين تهتزّ أبدانهم وقد تطفر دموعهم بعزف السّلام الوطني، مثلما تتساقط دموع المؤمنين بسماع الآيات المقدّسة.
صارت حدود الأوطان، أيضًا، مقدّسة، يصاحب عبورها إجراءات ديبلوماسيّة وقنصليّة تشبه الطّقوس والشعائر الدينيّة، حتى بين الجيران والأصدقاء، فالحدود علامات تشبه أبواب البيوت، تُفتح الحدود على التّراب المقدّس لدى جموع النّاس، كما تُفتح الأبواب على الحرمات الخاصّة بأهل البيت. وصار التّفريط فيها عارًا لا يمحوه الزّمان، يستفزّ نخوة الكهول قبل حماسة الشبّان، فالتّضحيّة على مذبح الوطن كالشّهادة في سبيل الله. ولذا يستعير النّاس رغبتهم في التّضحية على مذبح أوطانهم ضدّ الأعداء من روحانيّة الجّهاد ضد الكفّار، حيث يبني جموع الوطنيّين تضامنهم المشترك بحسب قدرتهم على تمثّل ما في الدّين من قدرةٍ على تكتيل إرادةِ جماعة المؤمنين، فمشاعر الأخوّة في الله تشبه مشاعر الثّائرين للوطن، يتجمّع الثّوار لإعادة بناء وطنهم بالصّورة التي يحلمون بها بعد أن أرهقه المتسلّطون عليه، ويتضامن المؤمنون للدّفاع عن دينهم الذي يعاديه المُلحدون، أو يفسده المتطرّفون.
أمّا الطّقوس الثوريّة في الحشد والتعبئة فتعبّر أفضل تعبير عن ذلك الرّابط الخفي بين الشّعور الوطني كـ(دين مدني) وبين الشّعور الدّيني كـ(وطن روحي)، فالحماسة الوطنيّة هي مشاعر دينيّة في الصّميم، لكنّها أخذت طابعًا دنيويًّا. وبدلًا من انتظار المؤمنين الأبرار (الخجول) مجيء الحياة الفاضلة في الملكوت السماوي المؤجّل، يسعى المواطنون الأحرار (الشجعان) إلى تجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن، على هذه الأرض.
ولكن يبقى التّحذير واجبًا من أنّ تقديس الوطن لا يعني الإقصاء باسمه أو الاستعلاء على غيره كما يتصوّر المتطرّف القومي، كما أنّ تقديس العقيدة لا يعني الوصاية باسمها، أو العداء لغيرها كما يفعل المتطرّف الدّيني. يقود التطرّف في الوطنيّة إلى "شوفينيّة" سياسيّة، مثلما يقود التطرّف في الدّين إلى عنفٍ أصولي، يسعى كلاهما إلى التحكّم في الطّبيعة الإنسانيّة.
ما أحوج أمّتنا إلى دولٍ وطنيّة علمانيّة وديموقراطيّة تخلو من المتطرّف وتزخر بالحسّ المدني والثّقافة التعدّدية
يدّعي الأصولي معرفته بالطّريق الوحيد الذي يكفل للجماعة الدّينيّة تحقيق أهدافها الكبرى وغاياتها القصوى، وكأنّ الله قد اصطفاه دونًا عن خلقه أو بثّ فيه سرًا لم يبثّه لنبيّه، يجب عدم مراجعته فيه، وهنا يصير المؤمنون الآخرون، أحرار العقل والضّمير، الذين ينشدون الله بعيدًا عن وصايته، مجرّد زنادقة يستحقّون التكفير، ومن ثم تنمو ظاهرة الجهاديّين، الذين لا يحاربون كفّارًا بالضّرورة، بل يقتلون ذويهم ويُدمّرون بلدانهم، طمعًا في غنيمة وسعيًا إلى سلطة.
وفي المقابل، يتصوّر "الشّوفيني" أنّ وطنه، الأكثر إدراكًا لحكمة التّاريخ وغاياته الكبرى، إنّما يسمو على بقيّة الأوطان، محاولًا فرض إرادته على ما سواه من بلدانٍ ولو عبر القتال، ليدخل معارك عبثيّة قد تلبّي جنون عظمته، ولكنّها تهدّد مستقبل وطنه، وتهدر كفاح أجياله من أجل التحرّر والتقدّم.
فما أحوج أمّتنا، خصوصًا في لبنان واليمن وسوريا والعراق وليبيا، إلى دولٍ وطنيّة علمانيّة وديموقراطيّة رشيدة، تخلو من المتطرّف الديني/المذهبي، والقومي العرقي، وتزخر بالحسّ المدني والثّقافة التعدّدية.
(خاص "عروبة 22")