تُعيد حركة التّشكيلات المسلّحة إلى الأذهان حدثًا جرى قبل نحو عشر سنوات، عندما قامت القوّات الرّوسية في سوريا بقيادة وتنفيذ عمليّة إعادة سيطرة النّظام وحلفائه الروس والإيرانيّين على حلب، وطرد التّشكيلات المسلّحة وقوى المعارضة السياسيّة منها مطلع عام 2016.
التّفويض العالمي للرّوس في سوريا حصد فشلًا ذريعًا في نتائج تسوياته الدّاخلية والخارجيّة
أساس الرّبط بين ما حدث ويحدث في الشّمال السّوري عبر تلك الفترة من السّنوات، أنّ كلًّا منها يجسّد فترةً من الصّراع، حيث إنّ استيلاء نظام الأسد وحلفائه على حلب عام 2016، كان بمثابة تحوّل مهمّ جوهره تفويض روسيا مهمّة إدارة الصّراع وضبط تطوّراته بما يعني الإبقاء على نظام الأسد وإضعاف معارضيه وخصومه من دون تصفيتهم. وفي إطار تلك المرحلة، أطلقت روسيا مبادراتها وأبرزها تحالف آستانا عام 2017 الذي جمعها مع تركيا وإيران لفتح حوار بين الأطراف السّورية، ثم مؤتمر سوتشي 2018 لفتح طريق من أجل حلّ روسي للصّراع، وجرى تنشيط عمليّات التّسويّة في جبهات الصّراع في الجنوب وفي ريف دمشق وحمص، حيث استعاد النّظام بمشاركة روسيّة ولو بصورة جزئيّة سيطرته على مناطق واسعة، كان قد طُرد منها. وأبعد قادة المعارضة في رحلات الباصات الخضر إلى إدلب ومحيطها ساعيًا إلى تكريس المنطقة باعتبارها "معقل التشدّد والتطرّف والإرهاب" الذي يحاربه العالم، ويطمح النظام ليكون عضوًا بين المشاركين. وتضمّنت تولية روسيا شؤون سوريا تأمين مصالح روسيا وإيران وتركيا عبر تحالفٍ ثلاثي، لا يمكنه تجاوز مصالح أطرافٍ إقليميّة ودوليّة أخرى ذات صلة، بينها إسرائيل والولايات المتّحدة.
وللحقّ فإنّ التّفويض العالمي للرّوس، حصد فشلًا ذريعًا في نتائج تسوياته الدّاخلية وفي التّسويات الخارجيّة أيضًا، وترافق الفشل مع تطوّرات سلبيّة، أحاطت بمكانة روسيا وعلاقاتها في المنطقة والعالم. ففي سوريا، تفاقمت المشكلات الداخليّة في تزايد القمع والفساد والفقر، وتدهورت حياة السوريّين ولا سيما في مناطق سيطرة النّظام، مقرونةً بطفح السّياسات الإيرانيّة، التي وسّعت من دوائر حضورها عبر نشر التّشيُّع وتكثيف وجود ونشاط الميليشيات الطائفيّة في سوريا وبلدان أخرى، وكلّه رافق تزايد الحضور والتأثير التّركي في مناطق الشّمال الغربي، ثم جاءت الحلقة الأهمّ من التّطورات وهي تصاعد الصّدام الروسي مع الغرب الأوروبي - الأميركي بسبب الحرب الرّوسية على أوكرانيا ونتائجها، التي وضعت العالم على شفير حربٍ عالميّة ثالثة.
الضّعف الذي ضرب نظام الأسد وإيران و"حزب الله" شجّع تركيا والتّشكيلات المسلّحة على تغيير توازنات النّفوذ
ومما لا شكّ فيه، أنّ ما شهدته منطقة شرق المتوسّط بعد عملية "طوفان الأقصى" 2023 والرّد الإسرائيلي الذي بدأ بعملية "غلاف غزّة"، وتجاوزه القطاع إلى الضفّة الغربيّة ولبنان شاملًا بمستويات متفاوتة سوريا وإيران، ترك تأثيره المباشر وغير المباشر في سوريا والصّراع فيها وعليها، الأمر الذي كان بين عوامل أخرى، دفعت أطرافًا متعدّدة للتّحرك، وكانت تركيا أوّل وأهمّ تلك الأطراف، بل إنّه لا يمكن رؤية ما حدث ويحدث في سوريا خارج دائرة الفعل التّركي الطامح إلى دور وتأثير أكبر في الملفّ السّوري، تارةً عبر التّهويل بدور الإدارة الذاتيّة في الشّمال الشّرقي، التي تُعتبر امتدادًا لحزب العمّال الكردستاني التّركي PKK الذي تصفه بـ"الإرهابي"، وتارةً عبر الحديث عن توفير فرص عودة السّوريين من تركيا إلى بلادهم.
وللحقّ فإنّ تركيا ترتكز في تحرّكها إلى متغيّرات أبعد من مخاوفها الأمنيّة، التي تمثّلها قوات الإدارة الذاتيّة "قسد" ورغبة إعادة السّوريين، وإضافة عوامل أخرى، أهمّها الحرج والضّعف الذي ضرب نظام الأسد بعد حرب إسرائيل في المنطقة، والتي أصابت إيران، وكان في أهدافها بُنى وشخصيّات إيرانيّة، وميليشيات تتبعها، ولا سيما "حزب الله" الذي حطّمت وجوده وقوّته في سوريا وبنيته وقيادته في لبنان، مما شجّع تركيا وحلفاءها من التّشكيلات المسلّحة على تغيير توازنات النّفوذ والقوّة في سوريا وسط سكوت أميركي - إسرائيلي، وارتباك روسي ناتج عن تطوّرات سلبيّة في سوريا ومحيطها، يضاف إلى ما تعانيه موسكو في حربها على أوكرانيا.
التطوّرات الجارية يمكن أن تتحوّل إلى مسارٍ في حلٍ سوري يفتح بابًا إلى سوريا جديدة
وإذ أتاحت الظّروف لتركيا دفع حلفائها من التّشكيلات المسلّحة للوصول إلى حلب في بداية الأحداث، فإنّ النّظام مجبرًا أعطاها فرصة التمدّد على خط الوسط في اتجاه حماة، ما جعل تطوّرات الشّمال السّوري والمتغيّرات الداخليّة والخارجيّة، تمثّل عوامل جديدة، تضع السوريّين وقضيتهم على قاعدة خروج من سكونيّة سادت لسنواتٍ طويلة، ضاعت في الحرب على الإرهاب الذي مثّله "داعش"، والمراوحة حول حلول عاجزة، سعت إليها روسيا من آستانا وسوتشي، وأخرى اقرّها المجتمع الدّولي عبر قرارات مجلس الأمن، لكنه لم يطوّر آليّاتٍ لتنفيذها وحوّلها إلى مجرّد وثائق.
خلاصة الوضع السّوري الرّاهن، أنّ التطوّرات الجارية يمكن أن تتحوّل إلى مسارٍ في حلٍ سوري، يفتح بابًا إلى سوريا جديدة، إذا قُدّر لها الحصول على دعم ومساندة من أطرافٍ فاعلة ومؤثّرة، وهو أمر ملحوظة بعض مؤشّراته في محيطٍ عربي ودولي ينبغي أن يبدأ دوره من دون أيّ تأخير، لأنّ الأطراف الفّاعلة في التطوّرات الحاليّة من قوى مسلّحة وسياسيّة ضعيفة وهشّة، ولا قدرات لها في إدارة الصّراعات والوصول إلى أهدافٍ تتوافق مع فكرة الحلّ، بخاصّة وأنّها عُرضة لتأثيرات خارجيّة، يمكن أن تتزايد على نحوٍ عاجل وقد توقع السوريّين في مذبحةٍ جديدة!.
(خاص "عروبة 22")