لعلّ هذه الفكرة، ظهرت أوّل مرة بشكلها الواضح الجليّ، على يد ثيودور أدورنو، الذي اهتمّ إلى جانب اهتمامه بالنظريّة الاجتماعيّة، بعلم الجمال، والموسيقى، والإعلام، ونظريّة المعرفة، بنهجه الماركسي. وقدّم مع ماكس هوركهايمر مصطلح "صناعة الثّقافة". على أساس أنّ الثّقافة أصبحت نتاجًا للأساليب القياسيّة الموجّهة نحو الرّبح الرأسمالي اعتمادًا على تكنولوجيا الصّناعة، وتحتكرها وسائل الإعلام المتعدّدة، الراديو والسينما والمسرح والتّلفزيون والمروّجات التجاريّة والسياسيّة بأنواعها.
التّكنولوجيا باتت تمثّل تسلّطًا على الطّبيعة والإنسان
وبذلك، انتقد أدورنو خاصّة الثّقافة الغربيّة المعاصرة بشدّة، ودعا إلى ضرورة تحرير الإنسان من الاستعباد والتسليع والاغتراب، وإنقاذه من التّشَيُّؤ، بصونه ووقايته من أن يتحوّل إلى شيءٍ لا قيمة له!... وفصّل أدورنو آراءه المهمّة هذه وغيرها، في الكثير من مؤلّفاته، مثل: "الشّخصيّة الاستبداديّة" 1950؛ و"الجدليّة السّلبيّة" 1966؛ و"النماذج النّقديّة: الاختراعات والكلمات" 1969؛ و"النّظريّة الجماليّة" 1970.
نأتي كذلك، لهربرت ماركوزه (1898-1979)، تلميذ مارتن هايدغر، والذي ربّما صرّح بأهمّ أسئلة العصر. ونظّر كثيرًا على خطى أستاذه في نقد المجتمع الصّناعي الرّأسمالي، صنيع التّكنولوجيا التي بدورها أصبحت تُصنّع الإنسان. صاغ مصطلح: "الكون ذو البعد الواحد"، منتقدًا الرّأسماليّة والشيوعيّة معًا، بما أفرزاه من مجتمعٍ صناعي متقدّم خلقَ حاجات وهميّة خاطئة، لا تفيد الإنسان في حقيقة تطوّره الطّموح، فقد أضحى الفّكر والسّلوك كونًا ذا بعد واحد، وصنع الإنسان ذا البعد الواحد أيضًا، المسيطَر عليه بفعل الآلة التّقنيّة المتوحّشة التي أنتجت منطق الهيمنة الاقتصاديّة والسّيطرة الاجتماعيّة.
من أهمّ أفكار ماركوزه وأقواله في هذا الشّأن؛ أنّ التّكنولوجيا نفسها وليس تطبيقها فحسب، باتت تمثّل تسلّطًا على الطّبيعة والإنسان بطريقةٍ مستهجنة، علميّة، محسوبة، وماكرة، وأنّ أهداف ومصالح هذا التسلّط لا تأتي للتّكنولوجيا فيما بعد، أو من خارجها، وإنما هي محدّدة في تصميمها ونمذجتها، في بناء وتصنيع الجهاز التّقني عينه، ومن ثم يأتي الاستعباد التّكنولوجي.
سؤال العصر يتركّز في البحث عن حلٍّ عملي للتخلّص من تفلّت التّكنولوجيا من القيم الإنسانيّة الجوهريّة
ماركوزه دعا إلى "الاشتراكيّة المتحرّرة"، التي يمكن رؤيتها في دعوته إلى المساهمة في خلق أدوات الإنتاج الاقتصادي، سواء كانت آلات أو نُظُمًا إداريّة وقوانين ومعايير، بمعنى نوع من دمقرطة التّكنولوجيا، خصوصًا حين أكّد على أهمّية البُعد الجمالي في الثّقافات المختلفة، والذي يعود بدوره إلى التحرّر من الاقتصاد والهيمنة، وتحديد الحاجات الخاطئة بفعل الرأسماليّة المتقدّمة. لذلك، رأى ماركوزه أنّ سؤال العصر يتركّز في البحث عن حلٍّ عملي للتخلّص من تفلّت التّكنولوجيا من القيم الإنسانيّة الجوهريّة، وتجنّب توليدها للقيم التي تولّد شهوة القوّة ومن ثم القهر والاستبداد...
طرح ماركوزه سؤالًا مهمًّا بهذا الخصوص: "كيف نضع التّكنولوجيا تحت السّيطرة الواعية للمبادئ المعياريّة، بدلًا من المضي قدمًا بصورة عمياء في زخم النّظام الموروث الذي شكّلته النّدرة والصّراعات التي يمكن التغلّب عليها الآن في المجتمع الغني والقوي الذي خلقته التّكنولوجيا نفسها؟". ويتلخّص جوابه في خلق آليّات عمليّة قابلة للتّطبيق للسّيطرة على التّكنولوجيا، وتوجيه صناعتها وتطوّرها وفق الإرادة الإنسانيّة المثلى.
وعلى النّهج النّقدي الماركسي عينه، ظهرت أفكار والتر بنيامين (1892-1940) اللّافتة، خاصّة ما يتعلّق منها بنقده للعمل الفنّي المستنسخ تقنيًّا، الذي يراه يفقد قيمة هالته، خصوصًا أنّ إنتاجه التّقني يقوم أساسًا على الممارسة السياسيّة، ومن ثمّ فالتّكنولوجيا تحوّل القيمة الجماليّة الفرديّة للفنّ إلى قيمة جماعيّة بانتشارها، أي قيمة اتّصالية موسّعة جماهيريًا. وبذلك، تمنح التّكنولوجيا الإعلام سلطة خاصّة، وتقضي على أصالة الفنّ باستنساخ العمل الإبداعي الأصلي. ولكنها، في الوقت عينه، تُضيف خدمات ومزايا عديدة إلى الأصل... مثل انتشار العمل الفنّي المستنسخ، وتقريبه من الجماهير العريضة، ورؤية تفاصيله الدّقيقة بشكل أوضح، وتُعيد إنتاجه بمنظور جديد.
كلّ شي أصبح استهلاكيًّا بفعل التّكنولوجيا المستخدمة بطرقٍ غير واعية وغير متوازنة وغير عادلة
مع ذلك، يظلّ الأصل يحافظ على بُعدَيْه الأساسيَيْن، وهما الزمان والمكان اللذان أُُنتج فيهما، شاملًا ذلك الظروف والقيم المصاحبة. وتأتي التّكنولوجيا لتفعل فعلها في التغيير برؤى وقيم جديدة. إذن، فالتّكنولوجيا هي منتجة للقيم السائدة في عصر إنتاجها واستخدامها، وهي لا شكّ قيم زمان ومكان جديد، متأثّرة عميقًا بالممارسة السياسيّة والسّلطة التي تمنحها لها التّكنولوجيا... إنّ كلّ شي أصبح استهلاكيًّا بفعل التّكنولوجيا المستخدمة بطرقٍ غير واعية اجتماعيًّا، ضاغطة، وغير متوازنة وغير عادلة.
عُرف بنيامين بكتاباته في مجالات عديدة، في الفلسفة والأدب والتّحليل الفنّي والجمالي والإعلام واللّغة والتّاريخ. ومن أهم مؤلفاته: "نقد العنف" 1921؛ و"العمل الفنّي في عصر الاستنساخ الميكانيكي" 1935؛ و"أطروحات حول فلسفة التاريخ" 1940.
وكان يقول بفكرة "التّاريخ يصنعه المنتصرون". ولعلّ هذه الفكرة كانت منتشرة في فترة الثلاثينيّات؛ وتستند إلى أنّ التاريخ يُصنع بتأثير القوّة والشعور بالعظمة التي انتشرت في الفكر السياسي اليميني خاصّة، آنذاك. وإنّ كاتب التاريخ بدوره يتأثّر بالمنتصر القوي الغالب. غير أنّ بنيامين، طرح فكره النّقدي لأجل إخراج التّاريخ من مجرّد إخبارٍ عن الظاهر والعيان المرئي، المتأثّر بالسّياسة والدّولة المنتصرة والإعلام، إلى إخبارٍ عن الإنسان الحقيقي، المُبعَد، المقهور، المهزوم، والمُصنَّع ثقافيًّا بآلة الاستبداد التّقنية.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")