بصمات

الصوفيّة... روحٌ سامية سرَت في جسد العرب

عندما نتأمّل التّجارب الروحانيّة في تاريخ العرب، سنجد أمامنا تجربةً عريضةً متعدّدة الألوان اسمها الصّوفيّة، تجربة تعرّضت للتّشويه وإنكار دورها الحضاري والثّقافي من قِبل الكثير سواءً من قِبل خصومِها أو بسبب انحراف بعض المنتمين لها، لكنّ إعادة النّظر التّاريخيّة ستُعيد وضع الصّوفيّة وتجاربها المختلفة في سياقها التّاريخي، والذي يُعيد لها الكثير من الاعتبار، بل ويجعل التصوّف أحد روافد التّجربة الدّينيّة في زمن المادّة والاستهلاكيّة، والباب الذي يستطيع الإنسان العربي من خلاله أن يستعيد بعض توازنه النّفسي.

الصوفيّة... روحٌ سامية سرَت في جسد العرب

تاريخ التّصوّف متغلغل في تاريخ العرب المسلمين على مدار فتراته المختلفة، لا يمكن حصره في شخصٍ أو جماعةٍ أو طريقةٍ، لكن على الدّوام ظهر التّصوّف لمواجهة الانحراف.

عندما انغمس بعض المجتمعات في الملذّات وغرِقت السّلطة في المفاسد، ظهرت الصوفيّة لتقدّم تجربة زهدٍ في متع الدّنيا والعودة إلى الجادّة، وعندما ضعف الوازع الدّيني في مقابلة تشدّد البعض وصولًا إلى الغلوّ في الدّين، قدّم التّصوّف تجربةً في الوسطيّة الدّينيّة، وعندما تعرّضت الأمّة لخطر الغزو كانت الصوفيّة في مقدّمة الصّفوف.

في عصورٍ لم تكن وسائل الرّبط من المتانة بين الأقاليم العربيّة لعبت الصّوفيّة هذا الدور

واحدة من الصّفحات الأساسيّة لتاريخ التّصوّف تتمثّل في نشر العربيّة والإسلام في مساحاتٍ كبيرة من العالم، لم يدخلها الإسلام والعربيّة إلّا من باب الحركات الصّوفيّة، وهو أمر معروف في نموذج الصّحراء الكبرى في أفريقيا، وفي وسط آسيا وشرقها، والدّور الذي لعبته الحركات الصّوفيّة في الرّبط بين الأقاليم العربيّة مهمّ، وإن لم يأخذ حقّه من البحث والتّقصّي، ففي عصورٍ لم تكن وسائل الرّبط من المتانة بين الأقاليم العربيّة، لعبت الصّوفيّة هذا الدور، ولدينا الكثير من الرّحلات التي قام بها صوفيّون لزيارة أبناء طرق صوفيّة في أقاليم أخرى، بهدف الدّراسة وتبادل الأفكار، وربما يكون نموذج رحلة ابن جبير المعروفة باسم (تذكرة بالأخبار عن اتّفاقات الأسفار)، ورحلة النّابلسي (الحقيقة والمجاز في الرّحلة إلى بلاد الشّام ومصر والحجاز)، من الوضوح للتدليل على هذه الفكرة.

أما دور الصّوفيّة في مقاومة الغزاة الأوروبّيين، فالحديث فيه مستفيض، إذ إنّ مشاركة الصّوفيّة في حروب الأيوبيّين والمماليك ضد الصّليبيّين والمغول معروفة ومسجّلة في مدوّنات التّاريخ المملوكي؛ مثل كتابات شهاب الدّين النّويري وتقي الدّين المقريزي والعيني وابن تغري بردي، أمّا الدّور الأكبر للحركات الصوفيّة في ملفّ الجهاد فيتعلّق بما لعبوه من دورٍ في مقاومة الاحتلال الأوروبّي لبلاد شمال أفريقيا من ليبيا حتى المغرب وموريتانيا، فغالبيّة قادة المقاومة هم من أبناء الطّرق الصّوفيّة وشيوخها، ولم تكن الصّوفيّة تعني في يومٍ من الأيام الانعزال عن الدّنيا أو الرّهبنة.

حتى بعض مظاهر الصّوفيّة ذات البعد الفولكلوري في الموالد الشّعبيّة في بلدٍ مثل مصر، لعبت دورها في معالجة بعض الأزمات الاجتماعيّة، فقد تحوّلت الموالد للرّموز الصّوفيّة إلى نقطة نشاط تجاري، بل شكّلت هذه الموالد نقطة تجمّع وتواصل بين أبناء الإقليم المصري، قبل أن تكون هناك أدوات تواصل حديثة من راديو وتلفزيون وإنترنت، فأهالي الصّعيد سافروا إلى الدّلتا للمشاركة في موالد وجه بحري، بينما شارك أهالي الدّلتا في موالد الصّعيد، واجتمعوا جميعًا في القاهرة حيث موالد آل البيْت. فضلًا عن هذه الحركة التي ساعدت في التّواصل الثّقافي على المستوى المحلّي، لعبت الموالد ولا تزال مساحة في التكافل الاجتماعي للطبقات المهمّشة.

الإسلام السّياسي يستخدم الدّين لخدمة "أجندة" سياسيّة وتكوين ميليشيات لم تجُرّ إلّا الخراب على المنطقة العربيّة

استعادة التّاريخ الحقيقي والواقعي للصّوفيّة، والتّركيز على نقاط القوّة فيه، وإدانة أي انحرافات ألصِقت به، أمر ضروري في اللّحظة الرّاهنة التي تستدعي مواجهةً على مختلف الأصعدة مع تيّار الإسلام السّياسي الذي يدّعي التّمثيل الحصري للإسلام في السّاحة العربيّة، ويستخدم الدّين لخدمة "أجندة" سياسيّة، تصل إلى حدّ قتل المخالف، وتكوين الميليشيات التي لم تجُرّ إلّا الخراب على المنطقة العربيّة، فالتّصوّف الحقيقي الذي يعتمد أساسًا على تجربة إيمانيّة شخصيّة بالأساس لا تسمح لنفسها بالتدخّل في شؤون الآخرين ولا تتبنّى قيم الاستعلاء والاستحقاق على حساب استباحة الآخرين.

استعادة روح الصوفيّة المنخرطة في الحياة من دون انعزال، والتي تؤمن بأنّ جوهر التّصوّف هو الدّفاع عن المجتمع العربي في مواجهة الأزمات، هي جزء من أجزاء استعادة بعض تراثنا القابل للحياة في زمن مادّي استهلاكي من ناحية، وفي مواجهة جماعات تريد خطف المشهد العربي الرّاهن من ناحية أخرى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن