يُعتبر العالم العربيّ من أكثر المناطق التي تسودها هذه الجائحة الفكرية المعلوماتيّة منذ عقود، وذلك تحت تأثير نظريّات المؤامرة الكاذبة والأخبار الزائفة والمعلومات المُضلّلة، كما أكد ذلك الكاتب العربيّ المُخضرم محمد رميحي في مقالة صدرت في هذه المنصة، حيث إنّ المعلومات الزّائفة في منطقتنا أحدثت آثارًا سلبيةً عميقةً في الأمن الاجتماعي، وغذّت النزاعات والكراهية، وأدّت إلى إذكاء التوتّرات التي تطوّرت إلى صراعاتٍ مسلحةٍ أو حروبٍ أهليةٍ مُدمّرة. وما يزيد من تعقيد المشهد هو سهولة انتشار هذه الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، ممّا يجعل من كلّ مستخدمٍ طرفًا فاعلاً مُحتملًا في نشر التضليل بوعيٍ أو من دون وعيٍ كاملٍ بعواقبه.
صدرت مؤخّرًا دراسةٌ عالميةٌ لتقييم قدرات الناس على التمييز بين المعلومات المُضلّلة والصحيحة شملت أكثر من 70 ألف شخصٍ من 24 دولة، باستخدام أداة قياسٍ مُوثّقةٍ ((MIST، وهي أداةٌ لاختبار قابليّة التأثّر بالمعلومات المُضلّلة والقدرة على التمييز بين الأخبار الحقيقيّة والمزيّفة، من خلال عرض 20 معلومة، 10 صحيحة و10 زائفة (من باب الاستئناس، الاختبار متوفّر على الإنترنت لمن أراد أن يختبر قدرته على تمييز الصحيح من الزّائف).
الجيل الرقميّ الأكثر عُرضة للمعلومات المضلّلة بسبب تعرّضه للمحتوى غير الموثوق
كشفت الدراسة أنّ الجيل الرّقميّ "Z"، والنساء، والأفراد من ذوي المستوى التعليمي المُنخفض، والمُحافظين سياسيًّا، هم أكثر الفئات تأثّرًا بالأخبار الكاذبة. كما أظهرت أنّ من يتمتّعون بثقةٍ ذاتيةٍ أعلى بقدرتهم على كشف المعلومات المُضلّلة كانوا أكثر دقةً بالفعل. وأكّدت الدراسة أنّ المستوى التعليمي المُرتفع يزيد من قدرة الأشخاص على كشف الأخبار المزيّفة، بينما تقلّ هذه القدرة لدى ذوي التوجّهات السياسية المُحافِظة مقارنةً بالليبيراليين.
يُشير الجيل الرقمي (Génération Z) إلى الفئة العمرية التي وُلدت ما بين عَامَي 1997 و2012 تقريبًا، وهو جيل نشأ في بيئةٍ مليئةٍ بالأجهزة الذكية، ويعتمد بشكلٍ كبيرٍ على منصاتٍ مثل "إنستغرام" و"تيك توك" و"سنابشات" للتواصل والتعبير عن نفسه، ولديه وصولٌ واسعٌ إلى المعلومات، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنّه أكثر قدرةً على تمييز الأخبار الحقيقيّة من المُزيّفة. كما أظهرت الدراسة أنّ الجيل الرقميّ كان الأكثر عُرضةً للمعلومات المضلّلة، ربما بسبب كثرةِ تعرّضه للمحتوى غير الموثوق على وسائل التواصل الاجتماعي.
العالم العربي مطالب بتكثيف التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام من أجل تعزيز مناعة مُجتمعاتنا
جمعت الدراسة بياناتٍ واسعةً من موقع إلكتروني دولي أتاح الوصول إلى عيّناتٍ مُتنوّعةٍ من مختلف الثقافات (الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، أستراليا وكندا). والمُلاحظ هنا أنّ العالم العربي كان غائبًا عن المشاركة في هذه الدراسة ممّا أضاع علينا فرصةً لمعرفة قدرات الأجيال العربية المُختلفة على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمعلومات المضلّلة.
من أجل التصدّي لآفة التضليل بفعّالية، لم يعُد الأمر مجرّد رفاهٍ علميّ، بل أضحى أولويةً مُلحّة. تحتاج مجتمعاتنا إلى إجراء دراساتٍ علميةٍ ميدانيةٍ عربيةٍ مُوسّعةٍ تكشف قابليّة الأفراد للتأثّر بالمعلومات المضلّلة وِفق خصوصيّاتهم الثقافية والاجتماعية، وتُسهم في تطوير أدواتٍ تربويةٍ وتوعويةٍ تناسب بيئاتنا العربية. ولن يتحقّق ذلك إلّا من خلال دعمٍ حكوميّ ومؤسّسيّ وأهليّ، يُمَكِّنُ الباحثين من إنجاز أبحاثٍ نوعيةٍ مبنيةٍ على بياناتٍ علميةٍ دقيقةٍ، تساعد على رسم سياساتٍ إعلاميةٍ وتربويةٍ من شأنها أن تُحصّنَ الرأي العام وتحدَّ من آثار الأخبار المضلّلة الكارثية.
تُمثل هذه الدراسة أوّل خريطةٍ عالميةٍ واسعة النطاق تكشف الفئات الأكثر عُرضةً للوقوع فريسةً للأخبار المضلّلة، وتضعُ أمامنا أداةً علميةً تساعد على رسم استراتيجيّاتٍ مُضادّةٍ على المستوى المُجتمعي والفرديّ. وإذا كان العالم قد بدأ بالفعل في توجيه جهوده البحثيّة لمواجهة تحدّيات التضليل الإعلامي، فإنّ العالم العربيّ مطالبٌ اليوم بأخذِ زمام المبادرة في هذا المجال، من خلال إجراء أبحاث موسّعة ومخصّصة لسياقه، وتكثيف الجهود المؤسّسية والتعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام من أجل تعزيز مناعة مُجتمعاتنا أمام تأثير المعلومات المُزيّفة، وصوْن السلم المجتمعي والأمن القومي.
العديد من صراعاتنا وأزماتنا الاجتماعية لم تكن سوى نتيجة بيئة يسودُها التدني في مستويات التعليم
إنّ خطورة انتشار المعلومات الزّائفة في منطقتنا العربية لم تعد مجرّد احتمالٍ نظريّ، بل باتت واقعًا ملموسًا يُغذّي النزاعات والانقسامات ويكرّس الكراهية والعنف. فالعديد من صراعاتنا وأزماتنا الاجتماعية لم تكن سوى نتيجةٍ طبيعيةٍ لبيئةٍ يسودُها التدني في مستويات التعليم عامة، والتعليم الإعلاميّ، وبخاصّة التعليم النقديّ، ما يجعل الأفراد أكثر عُرضةً للتأثُّر بالدعاية المُغرضة والإشاعات الكاذبة.
وإذا لم نتحرّك عاجلًا لمعالجة هذا الخلل، فإنّنا نغامر بتحوُّل مجتمعاتنا إلى ساحاتٍ دائمةٍ للفتن والحروب الأهلية التي يصعب إخمادها. لذا فإنّ مسؤوليتنا اليوم تكمنُ أوّلًا وأخيرًا في تطوير مناهجنا التربوية والإعلامية، وغرس مهارات التمييز بين الحقيقي والزّائف لدى أطفالنا وشبابنا، حتّى نُربّيَ أجيالًا أكثر وعيًا ومناعةً أمام سَيْلِ الأخبار المُضلّلة، وأقدَر على حماية استقرار أوطاننا من الوقوع مجدّدًا فريسةً لهذه الظاهرة المدمّرة.
(خاص "عروبة 22")