"المعزية"، كما كان أهلها يطلقون عليها، كانت الملاذ لجمال الدين الأفغاني ليعلن أفكاره التحديثية، والمنبر الذي أطلق منه عبد الرحمن الكواكبي سهام نقده لديكتاتورية السلطان العثماني، والساحة التي شهدت ميلاد أفكار محمد عبده وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين، لذا تمتلك رصيدها المعنوي عند كلّ عربيّ تقريبًا، لكن هل يكفي هذا لكي نتحدث عنها باعتبارها مركز الثقافة العربية الأكبر في مستقبل القرن الواحد والعشرين؟
رغم هذا الميراث الكبير انتكست القاهرة وانغلقت على نفسها فترة حكم السادات ومبارك الطويلة (1970-2011)، واقتصر التأثير على أعمال سينمائية ومسرحية وتليفزيونية، ما ضمن حضور اللهجة المصرية في كل بيت عربيّ تقريبًا، وعاشت مصر فترة انغلاق وانكفاء على الذات، وفقدت التنوع وقبول الآخر الذي كان كلمة السر في ريادة المدينة، فالكثير من صانعي نهضتها كانوا من العرب الذين هاجروا إلى القاهرة.
لم يعد لمدينة "الألف مئذنة" الهيمنة الثقافية التي كانت لها قبل نحو نصف قرن
في المقابل، تطوّرت العواصم العربية التي تتلمذت على منتج القاهرة الثقافي، وأصبحت في اللحظة الراهنة مراكز أكثر تطورًا واحتكاكًا بالمنتج الغربي وتطوراته الفكرية، فاللحظة التي انغلقت فيها نخب القاهرة على نفسها، هي ذاتها التي شهد فيها العالم العربي تحولًا ثقافيًا كبيرًا.
الآن لم تعد القاهرة مركزًا رئيسيًا أو متفرّدًا في دنيا العرب، حقيقة سيكابر بعض المصريين وينكرونها، لكن الواقع لا يرحم من لا يحترمه، لم يعد لمدينة "الألف مئذنة" الهيمنة الثقافية التي كانت لها قبل نحو نصف قرن، العديد من مدن الأطراف أثبتت حضورها في مجالات مختلفة، ظهرت تونس والرباط كمراكز ثقافية تعرف انفتاحًا كبيرًا في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية عبر الاحتكاك المباشر مع الثقافة الغربية، ولا غرابة أن نجد أهم الدراسات والمشاريع الفكرية في العقود الأخيرة تُنتَج بأقلام مغاربية.
وبينما كان الاحتفاء بالرواية شبه حصري في مصر، تحظى عواصم عربية بهذا الحضور في اللحظة الراهنة، عبر جوائز عدة، إذ تستحوذ الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر العربية"، التي ترعاها دولة الإمارات العربية على الزخم الأكبر، ودخلت على الخط جائزة "كتارا للرواية العربية" التي تقدّمها الدوحة.
وتضمّ قطر مراكز بحثية ذات إنتاج رفيع يتمثّل في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ويزاحم مشروع "كلمة" الإماراتي للترجمة نشاط "المركز القومي للترجمة" في مصر. كما تشهد السعودية نهضة مختلفة في السنوات الأخيرة، ما يتجلّى في مشروع مسار منح الترجمة، الذي أطلقته الهيئة العامة للأدب والنشر والترجمة (تأسست في 2020)، ويتبنّى فلسفة تقديم الدعم لدور النشر المحلية، ويبشّر بإصدارات شديدة الأهمية والجودة.
من كل هذا نصل إلى أنّ واقع المركز الثقافي المهيمن على المشهد العربي لم يعد كما عرفته القاهرة لأكثر من قرن ونصف القرن، فنحن أمام واقع تكوّن في العقود الأخيرة مبنيّ على تعدّد المراكز، تتنافس فيما بينها عبر برامج ومشروعات وجوائز مختلفة المشارب، والأهمّ أنها منفتحة على الثقافة العالمية، وتنقل منها أبرز ما فيها من فكر وعلم ومناهج.
زمن "تعددية المراكز" هو زمن يبشّر بديمقراطية ثقافية
نعم خسرت العاصمة المصرية مركزيّتها كجامعة العرب الثقافية، لكن لصالح وضع أفضل تتعدّد فيه المراكز الثقافية وتتنافس فيما بينها لإنتاج معرفة رفيعة متعدّدة المنابر، وهو أمر صحّي أكثر، بينما يتغيّر دور القاهرة، فهي لا تزال أكبر سوق لاستهلاك الكتب وتضم أكبر معرض للكتاب في المنطقة، ولديها قاعدة ضخمة من مراكز الثقافة والمسرح، ويزورها كبار المثقفين العرب كمركز تقليدي مسكون بنوستالجيا الريادة التاريخية.
لا يعني ما سبق أنّ دور القاهرة كمركز ثقافي انتهى، ولكنه تحوّر، والأجدى الآن أن تعود بمؤسساتها للبحث عن مجالات بعينها تركّز عليها لتقديم منتج عالي الجودة، في زمن تعددية المراكز، وهو زمن يبشّر بديمقراطية ثقافية لا يحتكر فيه مركز واحد الأنشطة المختلفة بما يستبعد شبهة الاستغلال السياسي أو يقلّصه إلى حد بعيد.
مطلوب من القاهرة -عبر نخبها- أن تعيد تعريف دورها في الثقافة العربية بشكل واقعي يحترم منجز المراكز الصاعدة، وأن تدخل معها في حوار صحّي يستفيد منه في المقام الأول والأخير المواطن العربي.
(خاص "عروبة 22")