هذا التعدّد يُخفي حقيقةً مفادها بأنّ المدارس في العالم على اختلاف إيديولوجيّتها ومرجعيّتها وأهدافها، لا تخرج عن ثلاثة أنواع هي:
المجتمع الياباني يجني ثمار مجهوداتٍ قادتها المدرسة
- مدرسة تُغيّر المجتمع: تقود التّطور من داخله باعتبارها محرّكًا للتّقدم الاجتماعي، ومصدرًا للإصلاح والتحوّل واستشراف حاجات المستقبل. في سبعينيّات القرن الماضي مثلًا وضع النّظام التّربوي الياباني مشروع "خطّة مجتمع المعلومات - هدف وطني نحو عام 2000"، من خلال التّركيز على التّعليم والتّعلّم مدى الحياة، يصبح معها شغل الأفراد الأساسي إنتاج المعرفة وتعميمها. اليوم المجتمع الياباني يجني ثمار مجهوداتٍ قادتها المدرسة نحو إعداد جيلٍ متمكّن تكنولوجيًّا، قاد البلاد نحو امتلاك مقعدٍ ضمن النّظام التّكنولوجي العالمي.
- مدرسة تَتَغيّر بتغيّر المجتمع: هذه المدرسة تُكيّف باستمرار نظامها وبرامجها وغاياتها لتلبية حاجات المجتمع الذي يتغيّر ويتطوّر اطّرادًا، استجابةً للتحوّلات التّكنولوجية والمخاطر الصّحيّة والبيئيّة والحروب. مثلًا عزّزت مدارس الدّول الاسكندنافيّة البُنية التّحتيّة للتَّعلُّم الرّقمي والتّعليم عن بُعد، مطلع التّسعينيّات بالموازاة مع اتّساع أطروحة مجتمع المخاطر العالمي (أولريش بيك)، كما لجأت إلى مراجعة المناهج باستمرار للتّركيز على المهارات الأساسيّة (القراءة والرياضيّات) في انفتاح مباشر على المستجدّات والأبحاث الاستشرافيّة حول المجتمع والتّكنولوجيا، ولذلك حافظت هذه المدرسة على أداء مهامّها وتوصيل المعرفة والمهارات إلى المتعلّمين خلال جائحة "كورونا" من دون اضطّراب أو تعثّر.
- مدرسة يُغيّرها المجتمع: هذه المدرسة على اختلاف أشكالها عادةً ما تكون انعكاسًا مباشرًا للضّغوط والصّراعات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بحيث تُظهر تبعيّة كبيرة لتوجّهات القوى الضّاغطة في المجتمع، على الدّرجة التي تجعلها غير قادرة على امتلاك رؤية منسجمة ومستقلّة للإصلاح أو التّنمية، أو امتلاك القدرة على استشراف حاجات المجتمع المستقبليّة.
المدرسة العربيّة نشأت لخدمة "أجندة" الاستعمار من حيث تعزيز اللّاوحدة واللّاانسجام في النّسيج المجتمعي
وتُعتبر المدرسة العربيّة نموذجًا لهذا النّوع، بالنّظر إلى تعدّد وتباين أنماط التّعليم السّائدة في كل بلد عربي، إلى الدّرجة الّتي يصعب معها تحديد المبدأ أو المذهب الأساس الذي يوحّدها. يوحي هذا الواقع بأنّ المدرسة في العالم العربي لم تستفِق بعد من صدمة ميلادها، وصدمة تحوّلها من المجتمع التّقليدي القَبلي (المُغلق)، نتيجة سيطرة أعدائها عليها. وعلى الرّغم من أنّ الكثير مما يرد في التّقارير الدّوليّة والوطنيّة حول أزمات التّعليم في العالم العربي ومعضلاته، مردّها إلى ضعف البنية التّحتيّة، ومشاكل التّدريب والإنفاق، وبُعد المسافات فيما بين المدرسة والمتعلّمين في العالم القروي، والسّلطويّة والتَّسرُّب الدّراسي... إلّا أنّ ذلك يغلّف في الغالب الحقائق أو يحاول إخفاءها.
معلوم أنّ المدرسة العربيّة في شكلها الحديث، تُعتبر وليدة صدمة الاستعمار وبيئته، وقد نشأت لخدمة "أجندته" وأهدافه من حيث تعزيز اللّاوحدة واللّاانسجام في النّسيج المجتمعي لكل بلدٍ عربي، ويُعتبر ذلك أحد العوامل التي حالت دون استقلاليّتها، فليست المدرسة العربيّة مدرسة واحدة لكلّ أبناء المجتمع وطبقاته، بل مدارس طبقيّة وإيديولوجيّة وعقديّة، من التعدّد والتكثّر بما يصعب إحصاؤه، كما أنّ القيم التي تسعى إلى تنزيلها ومن أهمّها قيم العقيدة الإسلاميّة القائمة على الصّلاح والاستقامة وحبّ الوطن والتّفاني في خدمته، تجعل منها مؤسّسة تشظّي واغتراب أكثر منها مدرسة تنشئة اجتماعيّة هُويّاتيّة.
فالطّلاب مع أولى مراحل انتقالهم إلى التّفكير المجرّد، يبدؤون مرحلة اغترابٍ فِكري وعَقدي ولو على نحوٍ حدسي، نتيجة تشظّي الواقع وتعاليه عن بيئتهم التي يحيون فيها (مدرسة فوق واقعيّة)، فالقيم التي يتلقّاها الطُّلاب في المدرسة في شكل دروس ووضعيّات وامتحانات تعكس التشبّث بقيم العقيديّة الإسلاميّة ومبادئها في مجال العقائد والعبادات والمعاملات، إلّا أنّهم حالما يغادرون أسوار المدرسة يضطرّون إلى استدعاء قيم أخرى تهيمن على مفاصل واقعهم المعيش.
من جهة أخرى، يبدؤون التّعامل مع مؤسّسات الدّولة ويكتشفون تدريجيًّا أنّ نظامها لا يبتعد كثيرًا عن نموذج الدّولة الاشتراكيّة التّقليديّة المُهيمنة على مفاصل المجتمع ونُظمه، في حين ينزع الاقتصاد نحو مزيد من الليبيراليّة والانفتاح والحريّة، والثّقافة المقاولاتيّة، التي بدأت في التمدّد نحو مؤسّسات الدّولة وهياكلها، بما فيها المدرسة التي تحوّلت إلى شركات تجاريّة هدفها تحقيق المكاسب الماليّة، وأصبح معها التّعليم والتربيّة سلعة تجاريّة وهميّة (كارل بولاني) لم تنشأ لغرض التّسليع، ولكن ضغط السّوق جعلها بضاعة استهلاكية تُباع وتُشترى، يستطيع البعض الحصول عليها، بينما يعجز البعض الآخر، وتتعرّض في بعض الحالات للغشّ والتّزييف كأي سلعة أخرى.
وقف الطالب العربي عاجزًا ضعيفًا غير محصّن أمام الآخر القوي والمُهاب من دون أي سلاح مادّي أو معنوي
الأمر الذي أفقد المدرسة العربيّة هويّتها واستقلاليّتها وقدرتها على إصلاح الواقع وتنميته (فلا هي بالمدرسة الإسلاميّة ولا الاشتراكيّة ولا الليبيراليّة) بل خليط من كلّ هذا، خليط جرّد الطّالب العربي من كل ما يملكه ماديًّا ومعنويًّا، حيث فقد واقعه ووعيه ولغته وثقافته وعقائده وقيمه، ووقف عاجزًا ضعيفًا غير محصّن أمام الآخر القوي والمُهاب من دون أي سلاح مادّي أو معنوي، ومن ثم انقلب فردًا براغماتيًّا يعالج توتُّر واضطّراب واقعه من منطق الغنيمة والمصلحة الذّاتيّة والمشروع الشّخصي، بعيدًا عن مصلحة الجماعة والمجتمع والدّولة، والأجيال القادمة.
(خاص "عروبة 22")