للكُمون أسباب، كما أنّ للنّهضة شروطها. تصدّرت أسباب الكُمون احتدام النّزاعات الثّنائيّة بين أطرافٍ في النّظام الإقليمي العربي وشحّ الثّروة الفائضة وطفرتها وسباقات الهيمنة الإقليميّة والتّدخل في شؤون السّلطة الفلسطينيّة فضلًا عن تداعيات الصّراعات داخل هذه السّلطة.
وراء إنشاء جامعة الدّول العربيّة قرار الدّول الغربيّة الحد من تطلعات الأقطار العربيّة حديثة الاستقلال إلى الوحدة أو التوسّع
أما أسباب وشروط الأمل المتجدّد في النّهضة الإقليميّة أو القوميّة فقد ارتبطت غالبًا بخلاصة حسابات التّحدّي الصّهيوني بشكلٍ خاصّ وقضايا الأمن القومي بشكلٍ عامّ، كما ارتبطت بحالات الانتصار العسكري والتوحّد أو التّضامن القومي والسّعي نحو الاستقلال، وبحالات ردود فعل الهزيمة أو الانكسار.
من اللّافت أنّ وراء إنشاء جامعة الدّول العربيّة قرار الدّول الغربيّة تثبيت حدود الأقطار العربيّة حديثة الاستقلال والحدّ من تطلّعها إلى الوحدة أو التوسّع. من اللّافت أيضًا أنّ مصر في العهد المَلَكي لعبت بحزمٍ دورًا مشهودًا ضدّ مشاريع وحدويّة أو توسّعيّة عراقيّة وسوريّة وأردنيّة وفلسطينيّة، وكلّها باستثناء فلسطين دول حديثة أو ناقصة الاستقلال.
الدّور عينه كانت تؤدّيه الإدارة الإنكليزية خلال سيطرتها على ما كان يُعرف بالخليج المُتهادن. كما لعبت مصر في عهودٍ لاحقة الدور عينه مرّتَيْن لمنع العراق من التوسّع على حساب الكويت، ومن الضّروري الانتباه الى أنّ الوحدة المصريّة - السّوريّة تعرّضت لمعارضة قويّة من المملكة العربيّة السعوديّة وكانت أحد أهمّ أسباب انفراطها.
من القواعد الجديدة للسلوك الدولي ما يحلّ محلّ قواعد قديمة مثل قاعدة ثبات أو استدامة حدود دول المشرق العربي
بمعنى آخر، يتّضح لنا الآن ضرورة الانتباه إلى قاعدة من قواعد النّظام الدّولي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثّانيَة، وهي التي كانت تقضي بضرورة الالتزام بالحدود التي رسمتها لدول المشرق العربي، القوّتان الأكبر (بريطانيا وفرنسا) بمباركة أميركيّة قرب انتهاء الحرب العالميّة الأولى فيما عُرِف بتفاهمات "سايكس - بيكو".
جدير بالذّكر في هذا المقام أنّه عندما أصاب الانفراط النّظام الدّولي ثنائي القطبيّة وحلّ محلّه نظام القُطب الواحد وفرضت الولايات المتحدة هيمنتها، باشرت هذه الهيمنة بنفسها مستعينةً حينًا ببريطانيا وأحيانًا بحلف الأطلسّي في وضع قواعد جديدة للسلوك الدّولي واختلقت لاعبين جدد إلى جانب الدّول في النّظام الدّولي. من اللاعبين الجُدد من غير صِنف الدّول الميليشيات بكافّة أنواعها وأوصافها والاغتيالات والانقلابات العسكريّة، ومن السّلوكيّات المُبتكرة حروب الإرهاب، ومن القواعد الجديدة ما ينفي ويحلّ محلّ قواعد قديمة مثل قاعدة ثبات أو استدامة حدود دول المشرق العربي.
بمعنى آخر، صار متاحًا لأميركا بصفتها القُطب المُهيمن، تفكيك العراق وسوريا وليبيا على سبيل المثال. وعلى الدّرب عينه، سارت دول أجنبيّة وإقليميّة تستخدم هذا الحقّ ضدّ هذه الدّول عينها، على هذا النحو جرت محاولات شلّ الجامعة العربيّة من الدّاخل.
صارت دول عربيّة تخشى أن يكون مخبّأً لها في ملفّات الدّول الكبرى ودول إقليميّة خطَط لتحريك حدودها ونزع سيادتها
غير خافٍ بطبيعة الحال أنّ سريان هذه القاعدة الجديدة هبط على مراكز صنع القرار السّياسي في عديد دول المنطقة العربيّة، هبوط المصائب الكبرى حتّى صارت دول عربيّة كما نعلم تخشى أن يكون مطروحًا أو مخبّأً لها في ملفّات الدّول الكبرى ودول إقليميّة خطَط لتحريك حدودها في أحسن الأحوال ونزع سيادتها ثم الاستيطان في مساحات واسعة من "الوطن" العربي في أسوأ الأحوال، من هذه الدّول مصر والمملكة الأردنيّة والمملكة السعوديّة والجزائر. دول عربيّة أخرى صارت عروبتها مهدّدة بزحف الهجرات والاستثمارات من خارج المنطقة العربيّة، أو باعتناق المسؤولين فيها عقائد نيوليبيراليّة متطرّفة يُطيح تطبيقها الواعي أو غير الواعي ببعض القيم وعناصر التّراث المكوّن للهُويّات الوطنيّة والقوميّة والدّينيّة، ويفكّك الرّوابط التّقليدية بين فئاتها.
في الجزء الثاني من هذا المقال، نتوقّف أمام الكُمون الاستراتيجي الذي تبنّته "الجماعة الحاكمة" في النّظام الإقليمي العربي، ونستعرض "خريطة طريق" استنهاض العرب في سبيل بناء مستقبلٍ تتوفّر فيه حياة كريمة وآمنة لبنات وأبناء هذه الأمّة!.
(خاص "عروبة 22")