ثقافة

العلوم الاجتماعيّة بين المركز والأطراف

سعيد علي نجدي

المشاركة

كيف نقيّم علومًا اجتماعيّة تقارب الواقع الذي نعيش، وتبدأ عملها من تحت، من النّاس، ومن الفئات المغلوبة؟ لا يكفي أن تكون العلوم الاجتماعيّة في الشّكل تُراعي المركز للنّظريّات المُهيمنة على خطاب العِلم، بل يجب أن تكون المُمارسة مُنطلِقةً من حاجات مجتمعاتِنا الخاسرة، وبهذا فهي تحقّق غاية العدالة الاجتماعيّة.

العلوم الاجتماعيّة بين المركز والأطراف

في ممارسة العلوم الإنسانيّة، تبرز أمامنا نظريّات ذات طابع ثنائي، كمثيل نظريّات الجنوب، أمام نظريّات الشّمال، أو نظريّات الدّاخل، أمام المتروبول.

وفي هذا الصّدد أمامنا عالمة الاجتماع الأستراليّة ريوين كونيل، الّتي أشارت إلى هيمنة النّظرة المتروبوليّة على المجتمعات الطّرفيّة، وهي تضع في هذا السّياق نموذجَيْن من الدّراسات في المجتمعات المُستعمَرة، أو ما بعد المُستعمَرة؛

النموذج الأول، وجود كتّاب ينتمون إلى المجتمعات الطّرفيّة، ومتفلّتة من النّظرة المتروبوليّة وما تمليه من مفاهيم ونظريّات ظاهرها علمي وموضوعي، ومفعولها يؤدّي إلى تسهيل سيطرة المتروبول على المجتمعات الطّرفيّة وتسويغها وإعادة إنتاجها.

تسليع المعرفة يحوّلها بالمضمون إلى خدمة الوجهة الإرشاديّة التي تصبّ في المنبع الإيديولوجي

أما النّموذج الثّاني، أنّه وعلى الرّغم من هيمنة نظريّات المتروبول في الحقل الأكاديمي المتعلّق بعلم الاجتماع وتعميم صلاحيتها على المجتمعات كلّها، فإنّ ذلك لا يلغي كتابات مضادّة تسعى إلى كسر احتكار المتروبول لإنتاج المعرفة السوسيولوجيّة المتعلّقة بالمجتمعات الطّرفيّة، لهذا فإنّ ذلك يأخذنا إلى طابع الصّراع الرّمزي داخل حقل ممارسة العلوم الإنسانيّة. وهذا يعود إلى أنّ السوسيولوجيا تشكّلت ضمن ثقافة الدّول المستعمَرة، ما يساعد على فهم مضمون منهج هذا العلم.

تساعدنا هذه الثّنائيّة ما بين المركز، (المتروبول)، والطّرف، على فهم واقع أنّ المركز يشكّل نوعًا من أنواع "الممثول" الذي يسيطر بشكل لاواعٍ على من يمارس المعرفة العلميّة، لهذا نضع نموذجين:

1-  خطاب الاستحواذ: وهو ما يهيمن من مناهج وأدبيّات في الممارسة العلميّة على من يشتغل بالعلوم، فيُمكّن ذلك الخطاب من الاستحواذ على الحقل السوسيولوجي الذي يدرس ويعاين، وبهذا يشوّه المعرفة من جهة وإن بدت أنّها علميّة طالما أنّه يستخدم أدوات ذلك الخطاب، ومن جهة أخرى يُمكّن تلك الوجهة من الهيمنة على أي موضوع، وبالتّالي يعطيها دَفقًا من شرعيّة القول والسّيطرة.

2-  خطاب إرضاء غير متحقّق: وهو ما يعمل على إرضاء نزعة النّرجسيّة التي تشير على سبيل المثال إلى أنّ ابن خلدون مؤسّس العلوم الإنسانيّة، وبهذا بدل أن يقدّم معرفةً تفيد الرّاهن، يقوم باستعادة دائمة لأمجاد الماضي، لا ضير باستخدام مفهوم وإن كان من التّراث، ولكنّ المشكلة هي بتضمين المعرفة وإعطائها بُعدًا من أبعاد الهُويّة القوميّة ذات الطّابع العربي أو ذات الطّابع المشارقي، المغاربي،  بلاد الشّام / بلاد المغرب، أو على هُويّة دينيّة كمقولة "أسلمة" العلوم، وهذا ما يسلّع المعرفة ويحوّلها بالمضمون إلى خدمة الوجهة الإرشاديّة التي تصبّ في المنبع الإيديولوجي، على طريقة مثلًا علم اجتماع هندوسي، أو أفريقي، أو اقتصاد إسلامي، وهذا لا يفيد التحرّر، إنما يُعيد إنتاج الهيمنة بطرقٍ يُعطيها شرعيّة مُضاعفة.

تبرز الحاجة لخروج الباحثين من الصّروح ومقابلة الناس

اللّافت هو أنّ الوجهة الثّالثة لم تكسر بعد هذه الثّنائيّة، وتخرج من ضغطها، فهي تُمنع من استخراج المفاهيم من حركة الواقع بدل الاستيراد بشكلٍ لا يفيد، بغضّ النّظر إن كان من مراكز هيمنة الخطاب، أو من ماضٍ مضى وتمجيده على حساب الحاضر.

في هذا السّياق، نحن بحاجة إلى "مبدأ التّوحيد"، من خلال عدم الرّكون بشكل كلّي إلى مدرسة معيّنة أو إلى المشهورين في أدبيّات العلم، وبالوقت ذاته عدم تجاهُل أي شيء من شأنه التّدليل على المشكلة بشكلٍ يكون مفسّرًا، وهو عدم الوقوع أيضًا في فخّ معاداة العالمي.. ومن هنا تبرز الحاجة لخروج الباحثين من الصّروح ومقابلة الناس وجهًا لوجه!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن