بصمات

في نقض "المُواطَنة السّكونيّة" لصالح "المُواطَنة الدّيناميّة"

حديثنا الفكري والسّياسي عن المُواطَنة، وكما يتجلّى في كثير من المنتديات والمناسبات، يدور في مدارات الهُويّة والانتماء من جهة، وفضاءات النّصوص الدّستوريّة الّتي تتعلّق بحقوق المواطِن تجاه الدّولة والّتي يتمّ مقابلتها، على الفور، بواجباته حيالها من جهة أخرى. وفي الحالتَيْن يتمّ الحديث بمعزل عن الحركيّة المُجتمعيّة بأبعادِها المختلفة.

في نقض

يذكّرني هذا الحديث بالتّعاطي النّصوصي/القِيَمي للدّولة الأثينيّة للمواطَنة عبر الفكر اليوناني/الإغريقي السّياسي المُبكِّر. وهي مقاربة مثاليّة كالتي وردت في جمهوريّة أفلاطون في سياق مُجتمعٍ عُبودي، حيث كان الوعي السّائد - آنذاك - حريصًا على أن يُبقي الوضع المُجتمعي على ما هو عليه.

فلقد كانت النّصوص القديمة تفترض "سكونيّة" الواقع المُجتمعي، وأنّه سيبقى على حاله من دون تغيّر، وأنّ البُنى السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة سوف تظلّ مستقرّة من دون تحوّل، كما سيظلّ كلّ فرد في موقعه في الجسم الاجتماعي (الطّبقي)، ما يعني أنّه لا أمل أن يحلّ المُواطن المحكوم محل الحاكم قطّ، أي أنّ: الحاكم - السّيد سيبقى حاكمًا، والمواطِن - العبد سيظلّ محكومًا؛

ما سبق يمكن أن نُطلق عليه النّموذج التّاريخي "للمُواطَنة السّكونيّة"؛ حيث يتعاطى أولو الأمر مع أبنية الدّولة والمجتمع باعتبارها عصيّة على التّعرّض لعوامل التّعرية والتآكل وفقدان الصّلاحيّة. وإنّ من يتولّون زِمام الأمور في تلك البُنية هم مخلّدون فيها. كانت تلك هي الفكرة السّكونيّة للمواطَنة الّتي تتصوّر أنّ الواقع غير قابلٍ للتّغيير.

هناك حاجة إلى تشكيل بُنى مؤسّسيّة تُتيح للمواطِنين الانتظام في هياكِلها للتّعبير عن حاجاتهم سلميًّا

بيْد أنّ هذا الوضع السّكوني لم يستمرّ طويلًا، إذ تعرّضت المجتمعات إلى موجات تحوّل بُنيويّة. فعرف التّاريخ الإنساني المجتمعات / الحضارات / الثّورات / الأزمنة / العصور الزّراعيّة فالصّناعيّة فالرّقميّة. وقد ساهم التّطور المذكور في أن عرفت البشريّة "أنماط إنتاج" كانت تُعيد تشكيل الجسم الاجتماعي / الطّبقي في كل مجتمع / حضارة ومن ثمّ العلاقات البَيْنيّة داخله من جانب، وبيْن الحكّام وأولي الأمر في شتّى الأبنية وبيْن المحكومين من جانب آخر.

في هذا الإطار المتجدّد للبُنى والعلاقات، انطلقت "المواطَنة الدّيناميّة النّضاليّة"؛ من خلال تجلّيات متنوّعة مارسها المواطنون في كلٍ من المجتمع الزّراعي فالمجتمع الصّناعي وأخيرًا في زمنِنا الرّقمي الرّاهن. وقامت المواطَنة الدّيناميّة النّضاليّة على قاعدة نضالٍ دؤوب من قِبَل المحكومين في كل مرحلة تاريخيّة من أجل اكتساب: الحقوق، وتأمين العدالة، وتوفير المساواة. وتجلّى هذا النّضال في مواطَنة تعمل على: اكتساب الحقوق بمعناها الواسع، وتحسين المعيشة، والحصول على أجرٍ عادل، وحقّ المشاركة السّياسيّة والتّصويت والتّرشُّح، وتحسين واقع العمل وبنود التّعاقد، وحرّية التّعبير، وحرّية العقيدة، وبناء منظومات تأمين اجتماعيّة وصحيّة وتقاعديّة، وتوفير تكافُؤ الفرص بين المواطِنين على اختلافهم، بخاصّة في مجالَيْ التّعليم والصّحة، والحقّ في اقتسام الثّروة العامّة... إلخ.

ومع مرور الوقت، وَضَح أنّ هناك حاجةً إلى تشكيل بُنى مؤسّسيّة سياسيّة ومدنيّة ونقابيّة وفئويّة تُتيح للمواطِنين - بتنويعاتهم - الانتظام في هياكِلها للتّعبير عن حاجاتهم سلميًّا. وبالطّبع احتاجت هذه البُنى إلى تنظيم عملها الدّاخلي من خلال اللّوائح المُنظِّمة والانتخابات الدّوريّة. كذلك، ابتكار آليّات تجسّد "الحيويّة المُواطِنيّة"؛ ميدانيًا على أرض الواقع بمجالاته المدنيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة مثل: الضّغط، والدّفاع، والحملات، والصّالونات الثّقافيّة... إلخ، إضافةً إلى الانخراط في العمليّة الانتخابيّة بمستوياتها المختلفة. وبفضل حركة المواطِنين تبلْوَرت المواطَنة بتجلّياتها المختلفة. وبقدر ما كان المواطنون يتحرّكون بقدر ما كانت المواطَنة فاعلة في تبديل موازين القوّة في المجتمعات من جهة، وبناء الدّول ومؤسّساتها من جهة أخرى. وبالأخير أصبح للمحكومين نصيب في السّلطة والثّروة.

المواطَنة الغربيّة انطلقت من "الأسفل" وبقيت مستمرة بينما المواطَنة في السّياق العربي تشكّلت من "الأعلى"

هكذا جرت خلخلة الفكرة الّتي استقرّت لوقتٍ طويل تُصوِّر أنّ بقاء الحاكم حاكمًا والمحكوم محكومًا إلى ما لا نهاية أمرًا قدريًّا لا مفرّ منه. ولا شك عندي - من القراءة التّاريخيّة غير الرّسميّة للتّجارب التّاريخيّة للدّول/المجتمعات التي قطعت شوطًا في التقدّم - بفضل المواطَنة الدّيناميّة ونضالات مواطِنيها في إحداث التّقدم بعناصره المتعدّدة: المؤسّسيّة، الدَّسترة، العصرنة، الحداثة... إلخ.

وعلى الرّغم من أنّ هناك اختلافًا، حدّيًّا، بين التجربتَيْن الغربيّة والعربيّة فيما يتعلّق بانطلاقة المواطَنة، إذ إنّ تاريخ التّجربة المواطِنية الغربيّة يُعتبر "معكوسًا" (إذا ما استعرنا وصف العالم الدكتور سمير أمين) عن تاريخ مسار التّجربة المواطِنيّة العربيّة. فالمواطَنة الغربيّة انطلقت من "الأسفل" في سياق التحوّلات الاقتصاديّة الإنتاجيّة المتعاقِبة وبقيت مستمرة من دون "تقطّع". بينما المواطَنة في السّياق العربي - بدرجة أو أخرى في الحالة المصريّة على سبيل المثال - قد تشكّلت من "الأعلى" عندما اضطرّ الحاكم إلى: أوّلًا: تمليك نُخبة من المصريّين - للمرّة الأولى منذ مصر القديمة، إذ كانت مُلكيّة الأرض محتكَرة من قبل أنظمة الحكم الوافدة. ثانيًا: تأسيس جيش وطني من عموم المصريّين. ففي ضوء هذين الإجراءَيْن، اندفعت الحركيّة المواطِنيّة تشارك في المجال السّياسي من خلال مجلس شورى النّواب، وتؤسّس مؤسّسات الحداثة، وغير ذلك.

نعم لم تتمتّع هذه الحركيّة بالاستدامة فكانت أشبه بالفعل المتقطّع غير مكتمل العناصر. فتارةً ينجح المواطنون في تحقيق المواطَنة في بُعدَيْها السّياسي والمدني من دون البُعدَيْن الاقتصادي والاجتماعي (نموذج ثورة 1919)، وتارةً أخرى يدعم المواطنون إنجاز المواطَنة في بُعدَيْها الاقتصادي والاجتماعي (النّموذج اليوليوي). ويبدو أنّه على الرّغم من الحضور المواطِني القاعدي الواسع في التجربتَيْن إلَا أنّهما - النّموذج الوفدي والنّاصري - لم يستطيعا التّخلص كلّيًّا من "المَركزَة" التّاريخية السّياسيّة والاقتصاديّة ما أفشلهما بالارتداد في التّجربة الأولى على مكتسبات دستور 1923 السّياسيّة والميدانيّة، وتعرّض الثانية لـ"يوليو" مضادّة أضعفت قاعدتها الصّناعيّة ومراعاتها النّسبيّة للعدالة الاجتماعيّة. وأظنّ أنّ المركزة كانت سببًا رئيسيًّا في غياب/تغييب أصحاب المصلحة الحقيقيّة من المواطِنين وتمكينهم من الدّفاع عن هذه المكتسبات وتلك المنجزات.

وبعد، أردنا من التّمهيد السّابق إبراز أنّ هناك فرقًا، بل فجوةً كبيرة بين المواطَنة في بُعدها السّكوني وبين المواطَنة في بُعدها الحركي في المجالات الحيويّة المختلفة التي اختبرها الآخرون وكما اختبرناها نحن، إذ هناك انقطاع عن مكتسبات المُواطَنة التي اكتسبها المواطِنون في مسيرتهم المتقطّعة. مسيرة المواطَنة الّتي حقّقت بعض المُكتسبات السّياسيّة/المدنيّة والاقتصاديّة/الاجتماعيّة بفعل نضالات المواطِنين، إذ بات التّعاطي مع المواطَنة يهيمن عليه ويوجّهه الوعي السّكوني، حيث يتمحوَر حديث المواطَنة، في الأغلب الأعمَ، حول ما يُطلق عليه في الأدبيّات: أوّلًا: البُعد الشّعوري للمواطَنة، ثانيًا: النّصوص الدّستوريّة. أي أنّ حديث المواطَنة يقف عند المواطَنة المبدأ ولا يتجاوزها إلى المواطَنة الفعل، على الرّغم من أنّه لولا المُواطَنة الفعل ما كانت "الدّسترة". وأقصد الدّسترة الّتي تَنتُج عن تغيير موازين القوّة وتؤسّس لزمنٍ جديد - أو ما وصفناه في دراسة لنا بدستور الحركة الوطنيّة - تمييزًا لها عن "الدّسترة" التي تكرّس عدم التّغيير وبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه - الذي أطلقنا عليه في الدّراسة عينها دستور وليّ الأمر - هي الّتي تمهّد للصّياغة الدّستوريّة، كما تشكّل ملامح الهّويّة الّتي تجسّد وتبلوِر انتصارات المواطَنة الفعل وبالتّالي توطّد الانتماء.

بحركة المواطِنين وكفاءاتهم وإبداعاتهم تُبنى الدّول وتتقدّم المجتمعات

الخلاصة، إنّ ما آلت إليه أحوال الإقليم من "استقطاع للخرائط"، وسريان ما أُطلق عليه "فيروس التّفكيك"، وإعادة انتاج للشّموليّات السّياسيّة والدّينيّة، وتراجع اقتصادي تحت مظلّة اللّيبيرالية الجديدة التي فاقمت من اللّامساواة، وغياب عربي عن المنظومات الإنتاجيّة والإبداعيّة والرّقميّة دائمة التّطوّر والتّجدّد، يحتاج منّا إلى إعادة الاعتبار للمواطَنة الدّيناميّة وإتاحة الفرصة أمام المواطِن العربي أن يكون فاعلًا ونشطًا في بناء أوطاننا العربيّة فلا يصير "مواطنًا مُقيمًا" (راجع مقالنا "ما المواطنة؟")، فبحركة المواطِنين وكفاءاتهم وإبداعاتهم، على اختلافهم، من دون مواجهتهم بالإقصاء والاستِعلاء، تُبنى الدّول وتتقدّم المجتمعات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن