نحن لا نبالِغ بقولنا إنّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، التي تصدّرت واجهة الإنتاج العلمي والفلسفي والأدبي، لقرونٍ طوال، كانت حضارةً عالميّة، أُمميّة، انتشرت في معظم أرجاء العالم، من حدود الصّين إلى الأندلس، ومن القوقاز إلى جنوب أفريقيا.
ومن أبرز عوامل ازدهار هذه الحضارة أنّها أفادت من مُنجزات الحضارات السّابقة أو المُعاصرة لها، كما أفادت الحضارة الحديثة بدورها من مُكتسبات الحضارة الإسلاميّة.
هناك ثقافة أصوليّة مُنغلقة جامدة عُدوانيّة وفي المقابل هناك ثقافة مُنفتحة حيّة خلّاقة
ثمّة عامل آخر أسهم في ازدهار الحضارة الإسلاميّة، هو كونها شكّلت فضاءً تنويريًّا للنّقاش الحرّ والتّداول الفكري، بين مختلف الهُويّات الثّقافيّة والمدارس الفلسفيّة. تجلّى ذلك في نقد الأديان، بما في ذلك نقد الإسلام نفسه.
غير أنّ الحضارة الإسلاميّة قد ولّى زمنها، بعد أن فقدت حيويّتها واستهلكت طاقتها على التجدّد، شأنها بذلك شأن الحضارات القديمة، كالفارسيّة والهنديّة والصّينيّة واليونانيّة... وما بقيَ من هذه الحضارات هو الثّقافة أو اللّغة. مع فارق أنّ هناك ثقافة أصوليّة مُنغلقة، جامدة، عُدوانيّة، يُترجمها أهلها على سبيل الانحطاط الحضاري والفقر المعرفي، أو الاستبداد السّياسي والإرهاب الفكري. وفي المقابل، هناك ثقافة، مُنفتحة، حيّة، خلّاقة، راهنة، يترجمها أهلها على سبيل الإبداع الفكري والتقدّم الحضاري والتّواصل البشري.
الخلافة
لا شكّ أنّ أهمّ تحوّل حدث في الإسلام بعد وفاة النّبي قد تمّ في عهد الخليفة الأوّل أبي بكر الصّدّيق. تجلّى ذلك في قولِه: "من كان يعبد محمّدًا فإنّ محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت"، أو في قوله: "وُلّيتُ عليكم ولستُ بأفضلِكم".
بذلك، انتقلت مؤسّسة السّلطة في الإسلام من طور النبوّة والقداسة والعِصمة إلى طور الخِلافة كمؤسّسة بشريّة، حيث الناس هم سواسيّة لجهة مبادئ العدالة وقواعد المساواة.
ولكنّ الحكّام المُسلمين لم يسيروا في هذا الاتّجاه، الذي يقوم على التّعاقد والتّسوية، بل ساروا على النّهج الإمبراطوري والإمبريالي في إدارة الشّأن السّياسي أو الاقتصادي والمعاشي بما يشبه حُكم كسرى وقيصر.
هذا في العالَم السّنّي. أما في العالَم الشّيعي، فقد تمّ الالتفاف على الصّيغة النّبويّة العربيّة بالصّيغة الإماميّة الفارسيّة. تجسّد ذلك في اختراع صفات وأدوار لعلي بن أبي طالب وبنيه من فاطمة الزّهراء، جعلتهم فوق مصاف الأنبياء. أما الحسين بن علي فقد احتلّ، بسبب مأساة كربلاء، مرتبةً لا يحتلّها إمام ولا نبي ولا حتّى إله. بذلك أقامت الشّيعة، بداعي نظريّة الإمام المعصوم، وثنيةً دينيّة جديدة، ولكن من دون مروءة العصر الجاهلي.
بعد التحوّل الذي حدث في عهد أبي بكر، حدث تحوّل آخر على يد معاوية بن أبي سفيان، الّذي لم يكن مؤمنًا أصلًا بالوحيْ والنّبوّة. ولهذا فإنّه، وبعد أن استتبَّ له الأمر، قال للصّحابة الّذين أتوا يُطالبونه بأن يحكم بسُنّة الله ونبيّه وسُنّة أبي بكر وعُمر، لتكُن بيننا مواكلة ومشاربة، بما يشبه الحكم العلماني المدني. عندها قالوا له "إذًا لتحكم بالحقّ". فكان جوابه "ببعض الحقّ إن استطعت".
ولكن من أتوا بعد معاوية من خلفاء بني أميّة الكبار، كعبد الملك بن مروان، لم يسيروا على نهجِه، بل وجدوا أنّ مصلحتهم هي السّير في المشروع النّبوي العربي، الذي به صعد العرب إلى مسرح العالم، ليستعمروا الشّعوب التي دخلت في الدّين الجديد باسم الله والقرآن.
سعى العرب إلى الخروج من الفلك الدّيني برفع عناوين العقلانيّة لكن الإخفاقات كانت مدوّية والنّتائج كارثيّة
ربّما كان من مصلحة العرب أن يحكمَهم داهية كمعاوية، كان يفكّر قبل مكيافيللي بعقلٍ ذرائعي، عملي. وبالمقارنة، فإنّ الذين قدّموا أنفسهم بوصفهم أصحاب الحقّ، فقد استبدّوا بالأمر، بقدر ما ادّعوا امتلاك الحقيقة ومفاتيح الهداية والسّعادة. وهذا من شأنه أن يصطدم بالواقع المُفخّخ بالأهواء والأحقاد، ليحصد المآزق والكوارث. ويُطيح بكلّ الحقوق والمُكتسبات، على ما تصدُمنا مآلات العمل الدّيني، من جانب الأصوليّات الدّينيّة على اختلاف فرقها وأحزابها الدّعويّة والجهاديّة.
الإخفاق والتّراجع
مع الدّخول في العالم الحديث، سعى العرب إلى الخروج من الفلك الدّيني برفع عناوين العقلانيّة والتقدّم أو الحرّية والمساواة أو المواطَنة والدّولة المدنيّة، على غرار ما جرى في أوروبا بدءًا من عصر الأنوار.
ولكن الإخفاقات كانت مدوّية والنّتائج كارثيّة، على اختلاف الدّعوات والمشاريع. فبعد قرن ونصف القرن من أعمال التّحديث استطاعت إيران الخمينيّة، عبر اللّعب على الورقة الطّائفيّة، أن تجتاح أمْنيًّا وثقافيًّا المنطقة العربيّة، بواسطة الميليشيات التي أنشأتها في هذه الدّولة أو تلك. وهم يتباهون بما أنجزوه، إذ يصرّحون بكل استِكبار بأنّ لهم خمسة جيوش في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزّة.
ومن المُفارقات أنّ المثقّفين الّذين يدعمون محور المقاومة، لا يرون وسط الرّؤية، ولا يسألون أسئلة الحرّية والحقيقة.
أين هي المُشكلة؟
والسّؤال الأبرز يطال المشروع الدّيني بمختلف نُسخه وطبعاته أو طوائفه ومنظّماته. فليست المُشكلة في البلدان العربيّة والمُسلمة، هي تجديد الفكر الدّيني، على غرار ما جرى تجديد الفِكر المسيحي أو اليهودي في أوروبّا. فالتّجديد جرى هناك بعد هزيمة الكنيسة أمام العالم الحديث. ولذا، إذا كان ثمّة إمكان للتّجديد والتّطوير أو للتّغيير والتّحديث، فذلك يقتضي خروج العرب من الفلك الدّيني اللّاهوتي، لابتكار صيغٍ حضاريّة جديدة لنموّهم وتقدّمهم، لكي يشاركوا في صناعة الحضارة العالميّة.
العالِم والفيلسوف والمُفكِّر إنّما وطنه الفكر وأداته العقل
وهذا ما يُنتظر من الفلاسفة والعلماء العاملين في مختلف حقول المعرفة: التّوقف عن التّعامل مع العقول والفلسفات بعقليّة المُحاصَصَة، بحسب البطاقة القوميّة أو الدّينيّة، الجغرافيّة أو الثّقافية، لكي ينخرطوا في المناقشات الدّائرة حول ما يشهده العالم من الأزمات والاضطرابات أو المستجدّات والتحوّلات، على غير مستوى وصعيد.
وهذا من شأنه أن يكون شاغله إنتاج معارف سواء حول واقع مجتمعه أو حول الواقع العالمي، تتجدّد معه حقول المعرفة أو تتطوّر، بقدر ما يُفيد منها أي كان بصرف النّظر عن جنسيته وهُويّته. فالعالِم والفيلسوف والمُفكِّر، إنّما وطنه الفكر، وأداته العقل، أيًّا كانت المُعطيات الّتي يشتغل عليها.
(خاص "عروبة 22")