لم تقتصر جبهة المواجهات بين الطّرفَيْن على الميدان العسكري، ولكن شهدت تصعيدًا في جبهات أخرى ارتبط بعضها بالدّيبلوماسي من خلال سعيْ "الدّعم السّريع" ومجموعات سياسية مساندِة له، إعلان حكومة محمد "المنفي" بغرض نزع الشّرعيّة عن قائد الجيش والمؤسّسات الدّستوريّة المرتبطة به، إلى جانب تنازُع اقتصادي بعد إعلان "بنك السّودان المركزي" في نوفمبر/تشرين الثّاني عن إجراء تغيير للعملة في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش من فئتَيْ الألف جنيه - أقل من نصف دولار حاليًّا في ما كانت تُعادل قبل اندلاع الحرب أكثر من دولار ونصف - وفئة الخمسمائة جنيه، اللّتَيْن تُعتبران أكبر فئات نقديّة مُتداولة، مع إعلان وزارة التّربية والتّعليم عن تنظيم امتحانات الشّهادة الثّانويّة التي ظلّت متوقّفة منذ يونيو/حزيران 2023 في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، حيث رفض "الدّعم السّريع" الاجراءت الخاصّة بتبديل العملة أو امتحانات الشّهادة السّودانيّة باعتبارهما ممارسةً تمييزيّةً على المواطنين الموجودين في مناطق سيطرته.
على الرّغم من ملامح التّجاذب والتّصعيد العسكري والاقتصادي والخدَمي بين الطرفَيْن، إلّا أنّ هناك مؤشّرات أخرى إلى وجود حدّ أدنى قد يترتّب عليه إنشاء وضعيّة تعايش بينهما كلّ في مناطق سيطرته بالتّأسيس على المصالح، فحتّى المعارك والأولويّات العسكريّة للطّرفَيْن منذ التّصعيد الأخير لوتيرة العمليّات يُظهر مؤشرات لإمكانيّة التّهيِئة لهذا الأمر عبر تعزيز كلّ طرف منهما لوجوده بما يتوافق مع ملامح سيطرته المستقبليّة على الأرض، فالجيش والمجموعات المُتحالفة معه يركّز بشكل أساسي على المناطق الواقعة في وسط السّودان والعاصمة وحقّقوا نجاحًا منذ بداية اكتوبر/تشرين الأول الماضي في السّيطرة على مواقع استراتيجيّة في وسط السّودان على رأسها "جبل موية" ومدينة "سِنْجَة" عاصمة ولاية "سِنَّار" مع انتشار أكبر لقوات الجيش وتحرّكه صوب عاصمة ولاية الجزيرة "ود مدني" بجانب العمل على تعزيز مواضعه في مدينة "الخرطوم بحري" اعتبارًا من الأسبوع الاخير من سبتمبر/أيلول الماضي.
كذلك، يُلاحظ في التّحرّكات العسكريّة لـ"الدّعم السّريع" من خلال استمرار قوّاته في مهاجمة تحصينات الجيش والمجموعات المتحالفة معه في الفاشر والتوغّل في المناطق النّفطيّة بغرب كردفان والسّيطرة على المعابر الحدوديّة الّتي تربط دارفور والنّيل الابيض بدولة جنوب السودان مع محاولة قواته التّمدّد في منطقة النّيل الأزرق للسّيطرة على المنافذ الحدوديّة مع إثيوبيا، وبالتّالي فإنّ إكمال سيطرته على الفاشر يجعله فعليًّا يبسط سيطرته على المدن الرّئيسيّة في دارفور وأجزاء واسعة من ولايتَيْ شمال وغرب كردفان خاصّة المناطق المرتبطة بالانتاج النفطي، وهذا يعني سيطرتها على نطاق واسع من غرب السّودان في اقليمَيْ كردفان ودارفور. وفي السّياق عينه، يُلاحظ تراجع قوات "الدّعم السّريع" من مناطق بالعاصمة ووسط السّودان مع استمرار محاولات قوّات تابعة للدّعم التوغّل في ولاية النّيل الأبيض لكون الجزء الجنوبي منها يرتبط بالمناطق الحدوديّة مع دولة جنوب السّودان.
بعيدًا عن ساحة المواجهات بين طرفَيْ الحرب فإنّ أرضية تفاهمات تقوم على المصالح يتمّ التّأسيس لها من خلال الاتّفاق على حماية خطوط تصدير خام نفط دولة جنوب السّودان وضمان حمايته والعاملين في القطاع النّفطي في المناطق الخاضعة لسيطرة أي من الطرفَيْن بالاتفاق بينهما كلّ بشكل منفرد مع الحكومة الجنوب سودانية، فيما أشارت جهات إعلاميّة وسياسيّة إلى اتفاق على جوانب ماليّة بحيث ينال "الدعم السريع" حوالى 28% من عائدات رسوم مرور النّفط على أن ينال الجيش بقيّة النّسبة، وعلى الرّغم من وجود مؤشرات إلى إمكانيّة تراجع الجيش عن هذا الاتفاق بعد زيارة قائده عبد الفتّاح البرهان إلى جوبا عاصمة جنوب السّودان في الرابع من هذا الشهر، ومطالبته بتأجيل بدء العمل بهذا الاتّفاق لحين إكمال الجيش سيطرته على ولاية الجزيرة والعاصمة، بما يجعل "الدّعم السّريع" خارج هذه القسمة، إلّا أنّ النُّقطة الجوهريّة المتمثّلة في قبول المبدأ هو مؤشر لإمكانيّة تعديل التّفاصيل مع الاحتفاظ بمبدأ التّعايش وإقرار حالة الانقسام الإداري أو السّياسي مستقبلًا بإنشاء دولتَيْن أو أكثر.
ما يعمّق ويعزّز خطى التّقسيم سواء كان إداريًّا بمعنى بسْط كل طرف سيطرته على مناطق نفوذه أسوة بالتّجربة اللّيبيّة أو اليمنيّة، أو حتى سياسيًّا بالوصول لمرحلة تأسيس دولتَيْن أو أكثر هو اقتصار إجراءات تبديل العملة التي بدأت في هذا الشهر على سبع ولايات من (18) ولاية بالسّودان بما في ذلك ولايات في وسط السّودان، وتنظيم امتحانات الشّهادة المؤهّلة لدخول الجامعات والكلّيّات في بعض الولايات الواقعة تحت سيطرة الجيش أو حتى وضع عراقيل وقيود على استخراج الاوراق الثّبوتيّة الرّسميّة من جوازات سفر أو اعتقالات على أساس قَبَلي وإثْني، بجانب مضاعفات التّعبئة الاجتماعيّة والإثنيّة والقَبَليّة في الحرب وتزايدها خلال الأشهر الثّلاثة الماضيّة الّتي تقود لتعزيز روح ومقوّمات التّقسيم الإداري أو السّياسي.
إطالة أمد الحرب وتأخّر حسمها مع استصحاب حالة الانهاك الكبيرة على طرفَيْ الحرب والمجموعات المتحالفة معهما، قد يجعل سيناريو التّقسيم والتّعايش حلًّا موقّتًا قد يضمن وقف المواجهات المسلّحة بينهما بمنح كل طرف سلطة إدارة مناطق وجوده لتقليل الإحتقانات النّاتجة عن الإجراءات الأحّاديّة "تبديل العملة/امتحانات الشّهادة/استخراج الأوراق الثّبوتيّة" بما يضمن تمتّع المُواطنين في مناطق سيطرة الطرفَيْن بتلك الامتيازات.
ويتنامى هذا الأمر مع مؤشّرات اعتزام أطراف سياسيّة تكوين حكومة في مناطق سيطرة قوات "الدّعم السّريع" لانتزاع "الشّرعيّة" وهذا الإجراء في حال حدوثه قد يعزّز سيناريو "التّقسيم" ويجعله أحد حلول إنهاء أو تهدئة النّزاع أو في الحدّ الأدنى تجميد الصّراع العسكري المسلّح بين الطرفَيْن رثيما يتمّ التّوصل لاتفاق وترتيبات توقف هذه الحرب مع ترك سيناريوات المستقبل تمضي صوب "التّقسيم الإداري" أو "الانفصال السّياسي عبر تأسيس دولتَيْن أو أكثر"!.
(خاص "عروبة 22")