تشارك في وقائع "مسار التجويع" بلدان جوار سوريا، وخاصة تركيا ولبنان والأردن، وفي الثلاثة أكبر تجمّع للسوريين في الشتات، يعادل نصف عدد اللاجئين السوريين في العالم والمقدّر بنحو أحد عشر مليون نسمة.
كما تشارك في وقائع "مسار التجويع" سلطات الأمر الواقع التي تتقاسم السلطة في سوريا، أوّلها الحكومة المؤقتة وفصائل الجيش الوطني وحكومة الإنقاذ مع "هيئة تحرير الشام" بقيادة رجل القاعدة الجولاني، وكلهم خاضعون للسيطرة التركية في شمال غرب سوريا، والثانية في شرق الفرات، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي تحت الرعاية الأميركية، فيما يسيطر نظام الأسد على المنطقة الثالثة في غرب وجنوب سوريا تحت السيطرة الإيرانية - الروسية.
رغم نقص التمويل... تواصل الأمم المتحدة تمرير الأموال لجهات وشخصيات تتبع نظام الأسد
ورغم ما تقوله الأمم المتحدة في أرقامها من أنّ 90% من السكان تحت خط الفقر الذي ارتفعت نسبته في العام الأخير، فإنّ مساعداتها تابعت في الأعوام الثلاثة الأخيرة تراجعها من حيث تبدّل في نوع المساعدات وتخفيض حجم ما هو مخصّص للمحتاجين في سوريا وبلدان الجوار في لبنان والأردن والعراق وتركيا، والحجة في التراجع، تكمن في نقص عمليات التمويل، لكن النقص لا يجعل الأمم المتحدة، تخفّض تكاليف التشغيل ومنها حصول موظفيها على رواتب وتعويضات بأعلى الأرقام، ولا تخفّض الأموال التي تصرفها وتمرّرها لجهات وشخصيات تتبع نظام الأسد كثير منها على قوائم عقوبات دولية، وتأخذ المال على حساب الضحايا.
وتتعدّد سياسات الدول الكبرى في تكريس "مسار التجويع". بعضها يمتنع عن تقديم المساعدات أو يقوم بتخفيض ما كان التزم به، باستثناء أنّ مشاركته بتحمّل المسؤولية في دعم اللاجئين، لا تتناسب مع قدراته مقارنةً بما تقوم به الدول الأقل قدرة في دعم اللاجئين، ولعلّ الأسوأ فيما تقوم به الدول الكبرى في مسار التجويع، دور روسيا التي تكرّر كلّ مرة معارضتها تمرير المساعدات إلى ذوي الحاجة في سوريا، وتجعل موقفها فرصة ضغط وابتزاز سياسي خلال نقاشات مجلس الأمن الدولي في موضوع تمرير المساعدات، التي ينبغي أن تكون خارج أيّ مساومات أو ضغوط بصفتها إجراءً إنسانيًا، والغريب أنّ مجلس الأمن، يتقبّل ويساير النهج الروسي والذي غالبًا ما يجد دعمًا ومساندةً من جانب الصين ودول أخرى.
ورغم أهمية دور الأطراف السابقة في مسار التجويع، فإنّ الدول التي ينتشر فيها اللاجئون والنازحون في سوريا وجوارها، مهم مثل سابقه. ففي هذه البلدان تتوالى أزمات متعددة، تترك بصماتها الثقيلة على أوضاع السوريين، منها استخدام اللاجئين ورقة في الصراعات الداخلية، واستخدامهم وسيلة ابتزاز وضغط على المجتمع الدولي، والاستيلاء على جزء من المساعدات وفق خط من فساد مسؤولين لا تتم متابعته بأي مستوى، إضافة إلى تفاصيل أخرى، بينها عيش اللاجئين في حدود البطالة غالبًا، وإعطاؤهم أجورًا منخفضة في سوق العمل وانتهاك حقوقهم الفردية والاجتماعية، ويكفي في هذا المجال إشارة سريعة إلى مثالَي لبنان وتركيا. ففي الأول شمل الانهيار الاقتصادي والمعاشي الأخير السوريين إلى جانب اللبنانيين، وكان سببًا في موجة عنصرية وتنمّر حيال السوريين، وشجّع عمليات ترحيل جزء منهم، بل تسليمهم لنظام الأسد، وكلّها خطوات خارج القانون الإنساني والمحلي، والأمر نفسه، يحيط بالسوريين في تركيا مع اختلافات تفصيلية هنا وهناك.
وللحقّ، فإنّ ما يصيب النازحين في سوريا فيه كثير مما سبق. ولا يقتصر الأمر على مناطق سيطرة الأمر الواقع عند نظام الأسد، وهو الأسوأ. بل يصيب المنطقتين في مناطق السيطرة التركية في الشمال الغربي، ومناطق سيطرة "قسد" في شرق الفرات بدرجة أقلّ، وفي المناطق الثلاثة تجذّرت أزمات اقتصادية ومعاشية، وتكرّس نافذون في السلطة وأمراء حرب وزعماء عصابات، يمارسون الفساد والجريمة بما فيها التدخل في المساعدات والاستيلاء على بعضها أو تخصيصه للمؤيدين والأنصار، وكلها سلوكيات كرّست تدهورًا في أوضاع المحتاجين أصلًا والذين تتساوى معاناتهم ومعاناة أقرانهم في لبنان وتركيا باختلاف أساسي أنهم في بلادهم!.
لإجراءات أممية عاجلة.. ودفع المجتمع الدولي نحو حلّ يأخذ السوريين إلى الاستغناء عن المساعدات
خلاصة الأمر، أنّ "مسار التجويع" يتواصل، مؤديًا إلى مزيد من المعاناة والتهديدات، وتتعدّد الأطراف التي تحفر فيه، وتتنوّع جهودها، مما يزيد من حجم كارثة باتت تهدّد كثيرين ولا سيما الفئات الأضعف من اللاجئين والنازحين ومنهم الأطفال والنساء وكبار السن المعرّضين لموت وأمراض تؤدي إليه، مما يجعل الحاجة مُلحّة إلى إجراءات ثلاثة:
أولها، تحميل سلطات الأمر الواقع في سوريا المسؤولية عن الوقائع التي صارت إليها أحوال السوريين هناك واحتمالاتها، وتأكيد مسؤوليتها عن إيجاد مخارج عبر خطط تنمية، تستثمر القدرات البشرية والمادية المتوفرة وتطوّرها، بدل الاكتفاء بممارسة دور الجابي الذي يجمع المال والشرطي الذي يقمع الناس.
والثاني قيام الأمم المتحدة بإجراءات عاجلة، يتمّ من خلالها تدقيق مسار المساعدات، وإجراء إصلاحات فيه حيث تطلّب الأمر، وتوفير مزيد من الموارد اللازمة لمساعدات تغطي الحاجة.
والمستوى الثالث المطلوب من الإجراءات، يكمن في دفع المجتمع الدولي نحو حلّ للقضية السورية، يأخذ السوريين إلى تطبيع حياتهم وبالتالي الاستغناء عن الحاجة إلى المساعدات، وتجاوز فرضياتها، وما يرافقها من ظروف محيطة.
(خاص "عروبة 22")