لا ينبغي لهذا القطْع أن يكون إبستمولوجيًّا فقط، بل سلوكًا يتعالى عن معاني التّقليد أو المُغايرة، ما دام الذي ينبغي أن يكون هو خلق "ثورة تواصُليّة" إزّاء الغرب تقوم أوّلًا على إحداث مسافةٍ تاريخيّة وفكريّة حياله، تؤسّس لوعيٍ قومي بضرورة تأجيل ممارسة السّياسة بالسّياسة كما هو الشّأن اليوم في إدارة الصّراع، أو ممارسة السّياسة بالإيديولوجيا كما هو شأن تمثّلنا لعقيدة الغرب وإسرائيل وأهدافهما في البلاد العربيّة، لأنّ ممارستنا للسّياسة بالإيديولوجيا ظلّت لحدّ الآن مُقتطَعة عن شرطها الموضوعي وفوق السّطح بالمقارنة مع التفوّق المتضخّم للغرب وإنجازاته السّريعة.
معنى هذا الكلام، أنّ مراجعة حساباتنا السّياسيّة والإيديولوجيّة وكيفيّة إدارتنا للمقاومة ضد الكيان المتسلّط على الأراضي الفلسطينيّة، تبقى ضرورةً مُلحّة ومستعجلة لكسب المعارك والحروب المقبلة. لذلك، قلنا إنّ هذه المراجعة تبدأ أوّلًا بخلق "ثورة تواصُليّة"، تَنقل التّركيز على التّواصل مع الخارج - الآخر، والانشغال المُطلق بإيجاد أساليب الحوار التي تهادِنه، إلى التّركيز على الدّاخل العربي بالمبادرة إلى هدمٍ داخلي تُلغى فيه كلّ أساليب التّفكير والممارسات كما هي معتمدة اليوم، وتجميع شتات وعي قومي يلتفّ حول دولةٍ وطنيّة حقيقيّة وليست شكليّة بناء على بلوَرة "عقد مواطَنة" مختلف وعملاني، ينتفي فيه تغوّل الدّولة وتُرتّب فيه حقوق الفرد في قِيَم المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة والأمن والحرّيات.
أولويّة بلوَرة سياسات عموميّة تقوم بالدّرجة الأولى على إحداث ثوراتٍ من داخل المنظومات التّعليميّة
بذلك، نكون بصدَد تواصل داخلي، يكون فيه الحوار بانيًا للأسُس الصّلبة للوطن القوْمي، لا تكون فيه الدّولة كيانًا سياسيًّا لإرساء العدالة والمُساواة فقط، بل كيانًا معبّرًا عن إرادة الأمّة وضميرها ويعمل على خلق التّوازنات الضّروريّة بين الدّاخل والخارج، ليس على النّحو الذي يخدم الحاكم ويحمي كرسيّه، ولكن على النّحو الذي يجعل من هذه التّوازنات خادمة لسيادة الدّولة باعتبارها امتدادًا للسّيادة القوميّة.
على أساس هذا القطْع وبلوَرة "عقد المواطَنة"، يحدث الوعي التّلقائي ببناء القوّة من أجل حماية الدّولة والأرض، وذلك بالانكباب الدّاخلي على وضع سياسات عامّة تديرها نُخب كَفؤة ونظيفة اليد.
ركّزت مجموعة الأزمات الدّوليّة في تحليلها لمصادر القوّة وامتلاك العالم مستقبلًا، على أنّ هناك وعيًا دوليًّا بدأ يتنامى حول أولويّة بلوَرة سياسات عموميّة تقوم بالدّرجة الأولى على إحداث ثوراتٍ من داخل المنظومات التّعليميّة لبلوغ القوّة. أي تملُّك تكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي وإنتاجها.
ضرورة إعادة بناءٍ ذاتي تكون فيه الدّولة القوميّة دولة وطنيّة تستثمر كلّ إمكاناتها في الحصول على القوّة
وقد أكد إريك شميدت الرّئيس التّنفيذي السّابق لشركة "غوغل" على أنّ العالم القادم هو مستقبل التّكنولوجيا المتقدّمة وسباق التّسلّح التّكنولوجي. فكثير من الدّول الضّعيفة ستنهار والبعض منها سينجو باكتسابها وعيًا قوميًّا تواصُليًّا داخليًّا وباستباقها إلى بناء دولة وطنيّة تُنتج الذّكاء الاصطناعي ولا تستورده.
إنّ الدّرس المُستفاد من الحرب على غزّة وجنوب لبنان، هو ضرورة القطْع مع كلّ خرائطنا التي اعتمدناها في التّفكير وإدارتنا للصّراع مع إسرائيل، بالعودة إلى إعادة بناءٍ ذاتي تكون فيه الدّولة القوميّة دولة وطنيّة لا شكليّة، تستثمر كلّ إمكاناتها في الحصول على القوّة التي تُمكّنها من ترسيخ اقتصاد قويّ وذكاء اصطناعي قوميّ يقلّص الفجوة بين العرب وإسرائيل، ويؤهّل العرب إلى خوض مقاومات وحروب مضمونة النتائج!.
(خاص "عروبة 22")