تقدير موقف

انهيار "المُمانعة".. وتشكيل الشّرق الأوسَط!

لعلّ السّقوط المُدوّي لنِظام آلْ الأسد يُعدّ الحدَث الأكثر أثَرًا وأهمّيّةً في المنطقة منذ الثّورة الإيرانيّة سنة 1979 وفلسفتِها في تصدير ثورتِها إلى المحيط العربي، وأدّت فيما أدّت إلى تحقيق ما سُمِّيَ بالهلال الشّيعي الّذي يربُط بين طهران وبيروت على المتوسّط، مرورًا ببغداد ودمشق. تَصدير الثّورة الخُمينيّة خلق، ما سُمِّي مع مرور الوقت، "مِحور المُقاومَة" المُكوّن من النّظام السّوري ومجموعة مُنظمات مُتعسْكِرة خارجة عن الدّولة كـ"حزب الله" في لبنان والميليشيات المُواليَة لإيران في العراق وأخيرًا حركة "أنصار الله" الحوثيّة في اليمن، إضافة إلى مساندة حركة "حماس" في فلسطين إلى حد احتوائها.

انهيار

أنْهكَت سنة 2024 التي تشارِف على نهايتِها هذا المِحور بعد أنْ دمَّرَت حربا غزَّة ولبنان معظم قدرات "حماس" و"الجهاد" القتاليّة وقوَّضت قوّة "حزب الله" العسكريّة وأطاحت بقياداته، ما ساهم إلى حدّ كبير في سقوط نِظام الأسد في سوريا وخروج إيران وميليشياتها منها.

مُحصِّلة المحطّات الثلاث في غزّة ولبنان وسوريا هي اقتلاع نفوذ إيران من المنطقة والقضاء على أدوارها فيها سياسيًّا وعسكريًّا وإيديولوجيًّا، ما سيخلق فراغًا لا بدّ من مَلْئِه.

من المُستبعد إعادة إحياء "محوَرْ المُقاومة" الذي قادتْهُ إيران إذا عادت سوريا إلى الحضْن العربي مكانها الطّبيعي والتّاريخي

السّيناريو الأكثر رجحانًا لسدّ هذا الخِواء هو عودة الدّور الطّبيعي والتّاريخي للخطّ المُمْتَدّ من الخليج العربي وتحديدًا السّعودية إلى دمشق، ويحاكي تاريخيًّا ما عُرِفَ بخط القسطنطينيّة أو إسطنبول إلى دمشق، العمود الفقري "القديم - الجديد" ذي الغالبيّة السّنّيّة العربيّة وغير العربيّة الشّديد الأهميّة للمنطقة، ومن حوله يمكن أن تزدهر العديد من الهَويّات والمُكوّنات الأخرى، سواء كانت شيعيّة أو مسيحيّة او علويّة او يهوديّة.

من المُستبعد إعادة إحياء "محوَرْ المُقاومة" الذي قادتْهُ إيران بدعمٍ من موسكو، بحسب ما تروّج له بعض السّيناريوات مع المُؤشِّرات المُتزايِدة لمغادرة روسيا سوريا، بخاصّةٍ إذا عادت سوريا مجدّدًا إلى الحضْن العربي وهو في المقام الأوّل مكانها الطّبيعي والتّاريخي.

هذا السّيناريو يحتاج إلى الوقت حتّى يتبلور، وسوريا نفسها بحاجة إلى التّماسك والعمَل ككيانٍ سياسيٍ ناجحٍ نسبيًّا، يُعيد إلى دمشق وهجَها كمركزٍ ثقافيٍ وسياسيٍ بنّاء في المنطقة، في قلب مجموعة دُول الاعتدال العربي، بدلًا من أنْ تكون مصدرًا للمتاعب والاضطراب لجيرانها على ما دَرَجَت عليه منذ أكثر من خمسين سنة. هذا لا يعني أنّ هذه الدّول، مثل السّعودية والأردن ومصر، ليس لها مصالح وطنيّة تجعلها تتنافس مع بعضِها ومع المحيط الأوْسع كتركيا، إنّما تبقى قادرةً في العقود المُقبِلة على أن تُشَكِّل مركزَ ثقلٍ عربيًا ذا غالبيّة سنّيّة بديلًا عن مركز الثّقل الإيراني الشّيعي على مدى العقود الماضيَة.

تبقى إسرائيل نقطة العَطَب في هذا المشْهد وهي الأشدّ حاجة لأنْ تكون في وسطه. نجحت تل أبيب فعليًّا في هزيمة "مِحوَر المُقاومَة" على الرّغم من كل الادّعاءات بخلاف ذلك. كما ساهمت في سقوط الأسد وخروج إيران من المَشْرِق، إنّما كلّ هذه المَتغيّرات، على أهمّيتِها، لن تَجلبَ السّلام والازدهار والنّموّ للمنطقة من دون سلوك طريقٍ واحدة: المُوافقة على دولةٍ فلسطينيّةٍ قابلةٍ للحياة وعاصمتها القدس الشّرقيّة.

إنّ محاولات إسرائيل تجاهُل هذه الحتميّة من خلال الالتفاف على إنشاء دولة فلسطينيّة لن تؤدي إلّا إلى مفاجآت عقيمة، تولّدها "خطط انتحاريّة" سيّئة مثل عملية السّابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.

الطّريق إلى الدّولة الفلسطينيّة ينبغي أن تكون مستقيمة ومباشرة مع موعد نهائي صارم

يدور الحديث عن "خريطة طريق" نحو دولةٍ فلسطينيّة إبّان ولاية دونالد ترامب من أجل تسهيل التّطبيع السّعودي - الإسرائيلي. ينبغي أنْ نتذكّر أنّ خرائط الطّريق لها سُمعة غيْر محمودَة في الشّرق الأوسط ولسببٍ واحد: فهي لا تُنَفّذ أبدًا. الطّريق إلى الدّولة الفلسطينيّة إذا صَفَت النّيّات وكانت جدّيّة وعازمة ينبغي أن تكون مستقيمة ومباشرة، مع موعد نهائي صارم وليس سنوات طويلة مقبلة. العقبة الإسرائيليّة تدور دومًا حول هاجِس الأمن، والمطلوب أن تضمنَه الدّول الّتي تطالبُ بإنشاء الدّولة الفلسطينيّة، من المنطقة وخارجها عربيّة وأجنبيّة.

وفي ظلّ مثل هذه الصّيغة، تتمّ تلبيَة احتياجات ومصالح الجميع الأساسيّة، والتّخلّي عن الضّبابيّة والعادات المُلتويّة وانعدام الثّقة والخيْبات. عندها، ندخل الى شرقِ أوسطٍ مختلفٍ عن ذلك الذي عرفناه خلال المئة عام الماضيَة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن