بصمات

تعدُّد المعرفة بالآخَر

حين نتحدّث عن معرفَةٍ يتبادلُها العرب والغرب عن بعضِهما، وتدخُل في تَكوين موقف كلٍّ منهُما تجاه الآخَر، فمن المُبْتَدِه أنّ عموميّة لفظتَيْ العرب والغرب - في استخدامِنا - لا تُخْفي ما تحت كلٍّ منهما من تَعدُّدٍ في التّكوين، بالقدْر عينِه الذي لا تُخفيان فيه ما يُرتّبه تَعدُّدُ التّكوين ذاك من تعدُّدٍ في نوعيّات المَعارف المُتكوِّنة داخل كلّ عالمٍ عن العالَم الآخَر.

تعدُّد المعرفة بالآخَر

إنّ المَسافة كبيرة بين معرفةٍ تُسْتَقى من محضِ علاقات الجوار والاحتكاك اليوميّ، وثانيةٍ تَرِدُ من طريق الصّور والأحْكام التي تبثّها وسائط الإعلام والتّواصل، وثالثةٍ تأتي من طريق المَعرفة الأكاديميّة: الجَامعيّة والبَحثيّة.

المسافةُ عينُها تُلْحَظ بين معرفةٍ يُكوِّنها عن الآخَر مَن يعرف لسانَه وثقافتَه دقيقَ المعرفة وأخرى يُكوِّنها من لا يعرف أيًّا منهما؛ بين مَن يبغي أن تكون مَعرفته جسْرَ تواصُلٍ مع الآخَر ومن يريد تَسخيرها لسياسةِ الآخَر أو إخضاعِه... إلخ. من البَيِّن، إذن، أن ليس ثمّة من إمكانٍ لمساواة هذه الضّروب من المَعرفة في ميزان التّقدير نظرًا إلى تفاوُتِ قيمتِها ومقاديرِ فوائدِها، ونظرًا إلى اختلاف الأهداف من تسخيرِها لدى كلّ حاملٍ لها.

سيطرة الغرب ثقافيًّا تتغذّى في وجوهٍ منها من سيطرتِه السّياسيّة والاقتصاديّة ومن تحكُّمِه في مصائِر العالم

تنطبِق هذه الملاحظات على معارف الفريقيْن عن بعضِهما؛ إذ هي عند هؤلاء وأولئك متعدّدة ومتفاوتة القيمة ودرجاتِ الدّقّة و"المُطابَقة" بحيث لا تَقْبل الجمْع بينها تحت عُنوانٍ واحد (معرفة). على أنّ هذه المعرفة - سواء اجتمعتْ نَوعيّاتُها أو تفرَّقت - ليست واحدة عند العرب والغرب. ولستُ، هنا، أقصِد إلى القول إنّها متبايِنة بتبايُن الموقع وتبايُن مُنتجيها؛ إذْ هذا من تحصيل الحاصل، إنّما المقصود بالقول ذاك أنّ ثقلَهما – كمعرفتَيْن - في ميزان القوّة والتّأثير متفاوت بل هو مختلّ، شديدَ الاختلال، لصالح معارف الغرب. هذه حقيقة قابلة للإدراك متى أخذنا في الحِسبان الفارق الهائل بين أدوات المعرفة هنا وهناك ووسائط نقْلها وتوزيعها: جامعات، مراكز دراسات، صُحف، مؤسّسات إعلاميّة، منصّات التّواصل، صناعة الصّور، الهندسة الإيديولوجيّة للرّأي العامّ... إلخ. ولقد يسع مثل هذا الاختلال الفادح في نسبة القوّة بين المعرفتَيْن أن يُبْطِل مفعول قيمةِ أيِّ معرفة قد يُفصح عنها الطّرفُ الأضعفُ في معادلة القوّة أو، على الأقلّ، أن يَحُدّ منه. وهذا يعني أنّ قوّة أيّ معرفة ليست تكمن، دائمًا، في محتواها بمقدار ما تعود إلى غِنى موارد إنتاجها وتوزيعها وفاعليّتها.

على أنّ عاملًا آخَر، في هذا الباب، لا يقْبَل التّجاهل إنْ أُريدَ معرفةُ ما يقوم في خلفيّة الرّؤى المُتبادَلة بين العرب والغرب وما يحرِّك اتّجاهاتها المَعرفةَ الأصحّ. يتعلّق الأمر، هنا، بجدَليّةٍ حاكمةٍ للعلاقةِ الثّقافيّة بين الطّرفَيْن تتراوح ما بين حدَّيْن وصورتَيْن منها: جدليّة السّيطرة/الخضوع، وجدليّة السّيطرة/المُمانعة. تقوم الصّلة الثّقافيّة، في الحالَيْن، على علاقة السّيطرة من جانب الطّرف الأقوى في المُعادلة: الغرب.

من النّافل القول إنّ سيطرة الغرب ثقافيًّا تتغذّى، في وجوهٍ منها، من سيطرتِه السّياسيّة والاقتصاديّة ومن تحكُّمِه في مصائِر العالم. غير أنّها سيطرة ثقافيّة قد لا تكون في حاجةٍ إلى موارد من خارجٍ ترفِدها. أمّا من جانب العرب فتُقَابَل السّيطرةُ تلك إمّا في شكل مقاومةٍ لها تسعى إلى إبطال مفعولِها، كسيطرة، أو في شكل خضوعٍ يقع التّسليم فيه بقدَرِيّة تلك السّيطرة واستحالة كفِّ مفاعيلها وأحكامها.

الثّقافة العربيّة مالت إلى إبداء خضوعٍ كامل تَجَلَّى في تقليدها الغرب في المعارِف والأفكار والمُسلّمات والسَّرديّات!

جرّبتِ الثّقافة العربيّة، من جهتِها، تيْنك العلاقتَيْن فأبْدَت من أفعال المُمانعة نسختَيْن متقابلتَيْن نقيضين: مُمانعة سلبيّة من طريق قطْع الصّلة بالوافد والانكفاء المَرَضيّ على الذّات والهُويّة والماضي؛ ومُمانعة إيجابيّة من طريق توْطين المعارف والقِيَم الحديثة، وإعادة تأهيل الثّقافة العربيّة معرفيًّا لكي تخوض منافسةً نِدِّيّةً مع الثّقافات وتجترح لها مكانًا في رِحاب الثّقافة الكَونيّة. لكنّ الثّقافة العربيّة ما لبثَت، في موازاة ذلك، أن أسقطتْ - في بعض اتّجاهاتها وتعبيراتها الأخرى - كلّ ممانعةٍ ممكنة في وجه سيطرة الغرب ثقافيًّا، فمالت إلى إبداء خضوعٍ كامل تَجَلَّى في تبعيّتها له وتقليدها إيّاه في المعارِف والأفكار والمُسلّمات والسَّرديّات! على أنّه من جانب الغرب، وفي مثل هذه الصّلة القائمة على مبدأ السّيطرة، ما كان لثقافتِه أن تُمارِس فعْل الاعتراف بغيرها من الثّقافات - لأنّها مُتشبِّعة بنزعَة التّمركز الذّاتيّ - ولا كان لمعرفتِها عن غير الغرب أن تكون موضوعيّة؛ إذْ معرفةُ الغالب مسكونة بنزعةِ الغلبة شأنها، في الانزياح، شأن معرفة المَغلوب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن