المشروع العربي وآفاق المستقبل

الشّام... تجارب تاريخ تُخاطب المستقبل

عندما تهلّ علينا أخبار الشّام وما فيها من حروبٍ وكوارث من صُنع البَشر، يسْرَح المرء في تاريخ هذا الإقليم العَجيب الحاملِ لطبقاتٍ من الحضارات التي تراكمت في حيّزٍ جغرافيٍّ استراتيجيٍّ من الدّرجة الأولى.

الشّام... تجارب تاريخ تُخاطب المستقبل

تتَداعى ذكريات القِراءات حول الشّام وفي القلب منها سوريا؛ التي تُشكِّل القطاعَ الأكبر من مُصطلح بلاد الشّام قديمًا، تبدو سوريا الكبرى وكأنّها تمتلك مفاتيحَ المِنطقة، ففيها تلتقي طُرق التّجارة والسّياسة كما الأفكار والثّقافات والحضارات والجيوش، لذا يُراقب كلّ عربي يُدركُ أهمّية سوريا ومِحْوَرِيَّتِها، ما يحدث في هذا البلد بعينٍ حذِرة فما سيجري في دمشق قد يغيّر وجه المِنطقة إلى الأبد.

ترتبط سوريا في الذّاكرة بأمجاد الأمويّين الحربيّة وإقامة الإمبراطوريّة العربيّة، وبداية انفتاح الثّقافة العربيّة على الثّقافات الأخرى تَنهلُ منها وتبدأ عمليّة صَهْرٍ تُبَشِّرُ بميلاد الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ومآثر سيْف الدّولة الحمداني الذي حارب البيزنطيّين على الحدود، وحوّل بلاطَه في حلب إلى ساحةٍ مفتوحة لرُموز عصره، فهذا الفارابي الفيلسوف يُبْدِعُ في أيّامه، والمُتَنَبّي شاعِر العربيّة الأكبر ينشد أعظم قصائد الشِّعر أمامه، وتموج البلاد بمذاهب وفرقٍ تظهر فيها تِباعًا لتُشكّل فُسَيْفِسَاءَ دينيّةً قدّمت درسًا في التّعايش في فتراتٍ تاريخيّة مُختلفة يُمكن البناء عليه.

الوِحدة هي قَدَر المنطقة لمواجهة أخطار تُحيط بها فلا نجاة فرديّة

لا ينسى التّاريخ أنّ بلاد الشّام دفعت الثّمن المرّ للفُرْقَةِ السّياسيّة، وذلك عندما تفشل النُخب في الاستماع لصوتِ العقل والتّاريخ بضرورة تخطّي صراع المذاهِب والطّوائِف؛ الّذي يُعَدُّ آفة بلاد الشّام القاتِلة، وهو ما نراه مَرّةً بين الفاطميّين الشّيعة والسّلاجقة السُّنة عندما تصارعوا على البِلاد والعِباد، فكانت النّتيجة الغزو الصّليبي الاستيطاني، ومَرّةً ثانيَة بين الفِرق والمَذاهب تحت المظلّة العُثمانيّة المُعاديَة للعرب فجاء الاستعمار الأوروبّي. هذا هو المصير عندما تفقد بلاد الشّام البوصلة، تُصبح مُشْتَهَى كلّ طامع، لكن مَن يتعلّم الدّرس؟!.

في المقابل، شهدت حلب ودمشق أولى محاولات بناء جبهةٍ مُوحَّدة ضدّ الاستيطان الصّليبي، بدايةً من الزّنكيّين وصولًا إلى الأيّوبيّين والمَماليك، عندها أصبحت مصر والشّام فَرَسَيْ رِهان المقاومة، والتي انتهت بتحريرِ الأرض وزوال الاستيطان الصّليبي وصدّ الهجمات المَغوليّة، بالتّوازي مع حماية العلوم العربيّة في عصر العَواصِف والأعاصير في مكتبات مصر والشّام، فَكُتُب التّراجِم المَمْلوكيّة تحشد لنا مِئات الأسماء لعُلماء ظهروا في مُختلف المجالات، والذين وضعوا حمايَةَ المَعرفَة في إطار المُقاومة، فعملوا على حفْظ التّراث العربي في أعمالهم ذات الطّابع الموْسوعي.

حديثًا كانت سوريا مَهْد ميلاد القوميّة العربيّة، في مواجهة هجمة التَّتْريك العثمانيّة، ومنها بدأ مُثقّفوها استدعاء المَوْروث العربي الجامِع لأهالي الشّام، والذي يقفز على أي تَحدّيات طائفةٍ أو جِهَوِيّة، والاستعانة بالظّهير العربي في مصر والعراق لخلق خِطابٍ عروبي تَطوَّر سريعًا لمواجهة الاستعمار الغَربي، وأعاد للعرب بعض الثّقة في أنْفُسِهم وقدرتِهم على العمل المُشترك للبحث عن مكانٍ لهم تحت شمس المستقبل، عبر الاستناد إلى التّاريخ الزّاخر بتراثٍ يُقيل العَثْرَة، ويُعطي الأملَ في القدرَة على استعادة اللّحظة الضّائعة.

المُواطِن العربي حجر الأساس لأي مشروعٍ عربي يُريد أن يُبصرَ النّور في المستقبل

الدّرس الّذي تُقدّمه الشّام؛ وتحديدًا سوريا عبر التّجربة التّاريخيّة، هو ما يجب الإنْصات له في زمن الصّخب والتّفكيك والتّفريط، فالوِحدة هي قَدَر المنطقة لمواجهة أخطارٍ تُحيط بها، فلا نجاة فرديّةً، ولكن في العصر الذي نعيش فيه لا يُمكن أن تكون الوحدة مجرّد باقةٍ من الشّعارات البرّاقة التي لا تحمل النّضْج الكافي لقيادة مشروعٍ يؤسَّس على فهمٍ عميقٍ للخُصوصيّة الجِهَوِيّة، ولا ينكر التّنوّع الفُسيفسائي الذي تعيشه مكوّنات المجتمعات العربيّة، ويعتمد مبدأ المَصلحة المُشتركة لا التّغليب لصالح جماعة أو مجموعة تُتاجر باسم العروبة وتختصر الوطن في ذاتها.

الواقعيّة هي ما يمكنُ أنْ نفهمَه من التّجربة السّوريّة، عدم الإفراط في الأحْلام، المشاركة كأُسُسٍ للحكم، احترام المكوّنات المُختلفة التي يمكن أن تعيشَ تحت مظلّة العُروبة، البُعد عن الخطابيّة الجوْفاء والشّعاراتيّة الزّائفة، تحقيق المصالح الاقتصاديّة لجميع الأطراف من دون مُراكمة الفوائِد في جانب واحد، والأهمّ احترام المُواطِن العربي، واحترام كرامته وحقّه في الحياة الكريمة، باعتباره حجر الأساس لأي مشروعٍ عربي يُريد أن يُبصرَ النّور في المستقبل بأي صيغة كانت.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن