لَئِن تتعدّد مُستويات تلك الخطورة وتتفاوَت، فإنّه يُمكن الاقتصار على استِحضار المُستويَيْن السّياسي والاجتماعي. فعلى الصّعيد السّياسي، يسوغ القوْل إنَّ تسارُع وتيرة تَشكُّل الشّرق الأوسط الجديد بات واقعًا مَلموسًا. ولا يمكن فهم حديث نتنياهو عن الزّلزال السّياسي الذي لم تشْهد له المنطقة مَثيلًا منذ اتّفاقيّة "سايكس – بيكو" سنة 1916 إلا بصفتِها وصفًا لواقعٍ قائم.
حدث ذلك على الرّغم من أنّ مشروع الشّرق الأوسط الجديد كان مجرّد فِكرة أو فَرضيّة اخترعتها البُنى العَميقة الأميركيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي في كتابات برنارد لويس أساسًا، ثم تدعَّمَت لاحقًا في شكل إيديولوجيا تبريريّة للهيْمنة الأميركيّة مع تلامذتِه والمفكّرين الاستراتيجيّين اللّاحقين أمثال فوكوياما بتصوّره لنهاية التّاريخ، وهنتنغتون انطلاقًا من نظريّة "صِدام الحضَارات".
"الزّلزالَ السّوري" عرّى الفَوارِق بيْن أنظمةٍ حديثة تحكمُها استراتيجيّات عمل وأنظمة بائِسة تُسيّرها الارتجاليّة والنّزوات
ولم تَكُن سلسلة الحُروب المُتلاحقة التي شهدتها المنطقة العربيّة منذ حرب الخليج الثّانيّة سنة 1991 وسقوط بغداد سنة 2003، ثم الحِراك الاجتماعي والسّياسي العربي سنة 2011 وسقوط دمشق راهنًا، إلّا مراحل جزئيّة نحو المُنعرَج الحاسم الّذي تشهده المنطقة العربيّة وأفضى إلى توسّع إسرائيل بعد احتلالها لجبل الشّيخ وتوغّلها في الأراضي السّوريّة. وهو ما ينسجِم مع المُتخيّلات الصّهيونيّة حول إسرائيل الكبرى.
إذا أخذنا بعين الاعتبار التّركيبة الاجتماعيّة الهشّة بسوريا في ظلّ فشل الدّولة المركزيّة في ترسيخ قِيَم المواطَنة والتعدّديّة والدّيموقراطيّة والمُساواة، فإنّ مخاطرَ التّدمير الذاتي تتضَاعف. فالطّائفيّة التي لم تتمّ معالجتها في العقود السّابقة إلّا بصفة انتقائيّة وبقبضةٍ أمنيّة قد تعود بقوّة وتشتعل اشتعال النّار في الهشيم لا سيما في ظلّ وجود قوًى إقليميّة ودوليّة متربّصة تستثمر في مآسي الشّعوب العربيّة.
إذا كانت التّفسيرات التّهليليّة والتّبسيطيّة لما حدث بسوريا لا تزال تجِدُ رَواجًا منقطع النّظير مثل الحديث عن دور المُعجزة في انتصار المُعارضين، أو اختزال الأمر كلّه في المُؤامرة وأدبيّاتها، فإنّ "الزّلزالَ السّوري" قد عرّى الفَوارِق بيْن أنظمةٍ حديثة تحكمُها استراتيجيّات عمل، وأنظمة بائِسة خارج التّاريخ تُسيّرها الارتجاليّة والنّزوات، ويستحوذ عليها منطق العصبيّة والغَنيمة. لذا ليس من المُستبعد أن تشهدَ أنظمةٌ عربيّة أخرى المصير عينه عندما يحين أوان قِطافها بالنّسبة إلى صُنّاع القرار الدّولي.
نعتقد أنّ ما تشهده المنطقة العربيّة منذ هزيمة يونيو/حزيران 1967 وإلى اليوم لا يمكن تفسيرُه تفسيراتٍ بَرّانية فقط، وإنّما قبل ذلك لا بدّ من إعادة التّفكير والتّساؤل عن العوامل الّتي جعلت العالم العربي دون غيره من بِقاع العالم ساحةً مستباحة لتَجريب أحدث الأسلحة وأخطرها، وتحقيق مشاريع الهيمنة الإمبرياليّة والصّهيونيّة بشكل نموذجي ناجِح. ولا جدال في هذا الصَّدَد بأنّ تعطّل تحقيق الحداثة السّياسيّة كان عاملًا بنيويًا عميقًا أوصل العالم العربي إلى ما فيه من ذلّ وهَوان.
من المُمكن تقليل الخَسائر العربيّة بالانخراط الجادّ في الحداثة السّياسيّة
من مفارقات الوضع العربي أنّ جلّ الأنظمة التي حكمَت المنطقة منذ منتصف القرن الماضي تخاذَلت وتهاونَت في تحديث الحياة السّياسيّة، إذ لم تأخذ من الدّيموقراطيّة إلّا مراسمها الشّكليّة من انتخابات صوريّة غالبًا، وصناديق اقتراع خاوية، وبرلمانات صوريّة، ومؤسّسات بلا روح أو فعّاليّة. ولعلّ استماتتها في انتهاجِ تلك الخيارات الانتحاريّة عينها يعكس شِدَّة الغيْبوبة التّاريخيّة والحَضاريّة للنُّخب السّياسيّة العربيّة الحاكِمة على الرّغم من انكشاف طبيعة المشروع الإمبريالي والصّهيوني.
يظلّ من المُمكن تقليل الخَسائر العربيّة وتدارك الأمر بالانخراط الجادّ في الحداثة السّياسيّة ولا سيّما بالنّسبة إلى الأنظمة العربيّة التي ما زال لديها هامش من الوقت لتصحيح مسارِها وأوضاعِها. ومن المعلوم أنّ الحداثة السّياسيّة تُحيل إلى مفاهيم التّعدُّديّة والدّيموقراطيّة وعلويّة القوانين ودولة المُؤسّسات. وهي مفاهيم تتجاوز قيمتها الجانب النّظري بحكم أنّها "ضرورة تاريخيّة" على حدّ تعبير جورج بوردو. ومن ثمّ فإنّه لا يكفي تطريز الخطاب السّياسي العربي وديْبَجته بها، وإنّما لا بدّ من أنّ تؤثّر تأثيرًا عمليًّا في تصوّرات النُّخب السّياسيّة ونظرَتها لنفسِها وللواقع التّاريخي. وإنّ من يرفض التّطوّر والتّغيير الجذري اليوم سيندم "ندامة الكُسعي" غدًا.
(خاص "عروبة 22")