هذه الدّراسة كانت تَعتبِر أنّ المُتغيّرات الإقليميّة وليست المتغيّرات الدّوليّة هي وحدَها القادرَة على إحداثِ تغييرٍ في مسار الصّراعات الدّاخليّة العَربيّة في اتّجاه أو في آخر، وذلك نظرًا لانشغال الأطراف الدّوليّة بأولويّاتٍ أخرى. أمّا وقد تطوّرت الأمور بسرعةٍ كبيرة في سوريا خلال أقل من أسبوعَيْن على نحوٍ أدّى لكسْر الجُمود الذي ميَّز الصّراع على الأقل منذ عام 2016، فكيف يمكن قراءة هذه التّطوّرات في ضوء فرضيَّة أنّ مفتاح التّغيير بِيَدِ القِوى الإقليميّة؟.
لن نتمكّن في هذا التّوقيت من إدراك تفاصيل المشهد السّابق على الحَسْم السّريع لمعارك حلب وحماه وحمص ودمشق
تُثبت الحالة السّوريّة صحّة التّحليل الوارد في دراسة الدّكتور أحمد يوسف أحمد، وذلك أنّ تركيا التي تبدو اليوم مُهيْمِنةً على الوضعِ في سوريا تحتفظُ بعلاقةٍ قويّة بالحُكّامِ الجُدد في دمشق، وبالأساس "الجيش الوطنيّ الحرّ" ومن بعده "هيئة تحرير الشّام". هذا الدّور التّركي المؤثِّر في اتّجاه الأحداث في سوريا على النّحو الذي شهدناه بدا مُفاجِئًا للكثير من المُراقبين في ضوء ثلاثة عوامل أساسيّة:
العامل الأوّل هو ما بدا من تراجعِ الدّور الإقليمي التّركي خلال عامٍ كامل منذ اندلاع حرب غزّة في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل ٢٠٢٣، إذْ لوحظ أنّه عدا بعض التّصريحات الشّعبويّة الصّادرة عن الرّئيس رجب طيب أردوغان دعمًا للمُقاومَة الفلسطينيّة، فإنّ تركيا لم تَبْذُلْ جُهدًا يُذكر لوقف العُدْوان الإسرائيلي الوحشيّ على سكّان قطاعِ غزّة. ومن الأسْباب التي وردَت في تفسير ضعفِ الدّور التّركي في حرب غزّة الحالة الصِّحّيّة للرّئيس أردوغان الذي لم يَبْدُ في كامل لياقتِه الصِّحّيّة خلال اللّقاءات الرّسميّة التي ظهر فيها. على العكس من ذلك، كان الموقف الإيرانيّ في أوْجِ نشاطِه من خلال تفعيلِ مُصطلح وحدةِ السّاحات للاشتباك مع ساحة المقاومة الفلسطينيّة، مع النّأْي بالنّفس عن التّورّط العسكري المُباشر مع الإسرائيليّين إلى أن تمّ قصفُ القُنصليّة الإيرانيّة في دمشق فانتقلَت المُواجهة مع إسرائيل من الظلّ إلى العلَن.
عامل ثانٍ يتعلّق بمساعي تركيا للتّطبيع السّياسيّ مع نظام الرّئيس بشّار الأسد بعد أن ظلّت ترفَع طيلةَ عدّة سنوات شعار إسقاطِه. ومن الطّبيعي في ضوء هذه المَساعي أن يكونَ هناك استبعاد لقيام تركيا بتحريك الجماعات المُسلّحة المَدعومَة منها لقلب نظام الحُكم والاستيلاء على السّلطة. صحيح أنّ المُصالحَة السّوريّة - التّركيّة لم تَشْهَدْ تقدّمًا بسبب اشتراط الأسد انسحاب تركيا من الأراضي السّوريّة قبل تطبيع العلاقات معها، لكن كانَ الاعتقاد أنّه ربّما أمكن التّوصّل عبر جهود الوُسطاء إلى صيغةِ تفاهُم بيْن الطّرفَيْن، بحيث تحفظُ هذه الصّيغة ماء وجه النّظام بإعلان جَدْوَلَةٍ زمنيّة للانسحاب التّركي، وفي الوقت عينه تُبقِي تركيا قوّاتها على الأراضي السّوريّة لأطوَل فترَة مُمكنة.
العامل الثّالث هو ما بدا من تحرّك تركيا للتّهْدِئَة مع الأكراد وبالذات مع "حزب العُمّال الكردستاني" من خلال طرحِ مُبادرَة للإفراج عن زعيم الحزب عبد الله أوجلان، في مُقابِل إلقاء الحزب سِلاحه وامتِناعه عن شنّ هجماتٍ إرهابيّة على الدّاخل التّركي. مِثْل هذه التّهدئة كانت تَتَعارض على طول الخط مع أي احتمال للتّصعيد مع "قوّات سوريا الدّيموقراطيّة" على أساس أنّها تُمثّل أحد مُنطلقات الهجمات الكرديّة ضدّ تركيا، لكن هذا التّصعيد تمّ بعد أيامٍ قليلة من سقوط نظام بشّار الأسد.
بطبيعة الحال، لن نتمكّن في هذا التّوقيت المُبكّر من إدراك تفاصيل المشهد السّابق على الحَسْم السّريع لمعارك حلب وحماه وحمص ودمشق بواسطة حلفاء تركيا، لكن من المُمْكن إثارة بعض الأسئلة في انتظار أن تجدَ إجاباتٍ مُقْنِعَةً عليها لاحقًا.
من هذه الأسئلة: هل كانت الإشارات التي بعثَت بها أنقره لكُلٍّ من بشّار الأسد والأكراد بهدف تَشتيتِ الانتبَاه ومن ثمّ خلْق حالةٍ من الهُدوء الذي يسْبق العاصِفة؟
إلى أي مدى يُمكن اعتبار المَوقف التّركي الضّعيف إزّاء حرْب غزّة جزءًا من صفقة مع إسرائيل لترتيب الأوضاع في سوريا بما يخدم مصالح كلٍّ من الأتراك والإسرائيليّين بحيث تتوسّع إسرائيل في الجنوب وتبسط تركيا نفوذَها على عموم سوريا وبالذات في الشّرق؟
لماذا لم تدعمْ روسيا نظام الأسد كما فعلت في ٢٠١٥... هل لإدراكِها استحالة إنقاذِه هذه المرّة مقارنةً بما كانت عليه الحال قبل تسع سنوات أم لانشغالِها بأوكرانيا ومعارك إقليم الدّونباس أم لتعويضِها بنفوذٍ في ليبيا حيث شبكة أكبر من المصالح تَعنيها... أم لكلّ هذه الأسباب مُجتمعة؟
وأين هي الولايات المتحدة من كلّ هذه التّرتيبات وقد رأينا سرعةَ تأقلُمِها مع الأوضاع الجديدة في سوريا والتّفكير قبل انقضاء شهر على سقوط بشّار في رفع اسم "هيئة تحرير الشّام" من قائمة التّنظيمات الإرهابيّة؟.
في حدود الأمَد المنظور ليس هناك ما يُشير إلى احتمال تقلّص الاختراق الإقليمي لدولِنا العربيّة
من دون أن نعرف ما حدثَ بالضّبط في المرحلة التي سبقت استيلاء حُلفاء تركيا على حلب، فإنّنا نعرف بالتّأكيد أنّ تركيا لعبت دورًا إقليميًّا أساسيًّا أخرج إيران من المشْهد السّوري تمامًا وحَسَمَ الصّراع ولو مؤقّتًا لصالح الجَماعات المُسلّحة التي تتبعُها. وهذه النّتيجة تكشفُ عن عمقِ الاختراق الخارجيّ لدولِنا العربيّة من جانب دولِ الجِوار، على نحوٍ يعزّز الفَرضِيَّة التي قامت عليها دراسة الدّكتور أحمد يوسف أحمد. وفي حدود الأمَد المنظور، ليس هناك ما يُشير إلى احتمال تقلّص هذا الاختراق الإقليمي لدولِنا العربيّة، فما حدث يُشير إلى أنّ الجار التّركي أصبح هو صاحب النّفوذ الإقليمي الأكبر، مع اختفاء النّفوذ الإيراني من سوريا وتراجُعِه في العراق واليمن ولبنان بدرجاتٍ مُتفاوتَة.
ويبقى أنّ الاختلاف الوحيد عن التّحليل الذي تبنّته دراسة الدّكتور أحمد يوسف أحمد هو أنّ القوى الكبرى مُنشغلَة بأولويّاتٍ أخرى عن النّزاعات الدّاخليّة العربيّة - العربيّة، فمن الصعب جدًّا استبعاد التّنسيق مع الولايات المتحدة قبل التّوصّل لقرار التّخلّص من الأسد.
(خاص "عروبة 22")