كان الاتجاهان وَهْمَين كبيرين يُمارَسان على نطاقٍ واسع، ويسبّبان ضياع الفُرص ويُبشّران بالشّموليّة الّتي قادت إلى القمع، ولم يَحْصُد منهما الإنسان العربي بعد تجاربَ مريرة، إلّا التّخلُّف والقَمع، ومع أنّ الامرَ لم يُحْسَم حتّى الآن، على الرّغم من تكاثُر الكِتابَة في أهميّة الدّولة الوطنيّة العَادلَة، ولكن كما يبدو أصبح هناك تَيّارٌ ينمو للدّعوةِ لتلك الدّولة.
قراءة الخروج من التّخلُّف بالوحدة "الاندماجيّة" كانت خاطِئَة وإلّا لما انفرطت تلك الوحدة بسهولة
الأوْهام كانت بأكثر من اتّجاه، الأوّل كان "ما فوق الدولة" وقد أخذ اتّجاهَيْن الأوّل قومي والثّاني إسلاموي، وكانت للاثنَيْن ظُروفهما التّاريخيّة، وخيباتهِما الوَاضحة. الأوّل القَومي كان يُنادي بـ"وِحدةٍ عربيّة"، وفي سبيل ذلك تمّ تجاهُل خُصوصيّة المكوّنات، وأنّ الأوطان هي ثانويّة، وفي التّجربة وجد الجَميع أنّ ذلك وهْم، لأنّ الواقع يُنكرُهُ بصرْف النّظر عن الشّعارات، فسقطت دولة الوحدة بيْن مصر وسوريا، وهما قُطبان أساسيّان في المَشرِق العربي، لأنّ قراءة الخُروج من التّخلُّف بالوِحدة "الاندماجيّة" كانت خاطِئَة، وإلّا لما انْفرطَت تِلك الوِحدة بسهولة. وعلى الجانِب الآخر، حَكَمَ بلدَيْن عربيَيْن حزب واحد يقول إنّها "أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة"، وتبيّن أنّ الخلاف بين العراق وسوريا ذات الحزب الواحد، أعمق كثيرًا من أي خِلاف، لأنّ الفكرة تَجاوزَت الواقعَ المحلّي، ولأنّ القادة "اخترعوا" الخِلافات، حتى لا يفرّط أحد في الظّاهِر بـ"استقلاليّة الحُكْم" التي حاز عليها!
على الجانب الإسلامَوي، صعدت فكرة "الأمّة الإسلاميّة الواحِدة" وكان أفضل مثال لها في التّطبيق حكم الإنقاذ بقيادة عُمر البَشير في السّودان، وفرضت على التّنوّع السكّاني في السّودان نمطًا من الحُكم لا يُناسِب شرائحَ أخرى في المُجتمع، فكانت معركة انفصال الجَنوب السّوداني، أي تفتّت الدّولة الوطنيّة، وأيضًا بعد ذلك سقوط السّودان في حربٍ أهليّة طاحِنة، لأنّ فريقًا يُريد أن يَفرِضَ على فريقٍ آخر تّصوُّرَه للحُكْم والسّلطة. في اليمن حدثَ الشيءُ عينه، حيفًا، مكوّن له صفةَ "الأدلجة" المَذهبيّة يفرض على المُكوّنات الأخرى شكْلَ الحُكم، فيُهمّش الآخرَ في الوطن، ويُدخِل الجميع في صراعٍ مقيت.
وإنْ نَظرنَا الى الخريطة العربيّة من غربِها إلى شرقِها، لا نكاد نجد بلدَيْن عربيَيْن متجاورَيْن إلّا وبينهما مُشكلات، إمّا حدوديّة، او حتى صِراعيّة، تصل في بعضها إلى الاحتكامِ إلى السّلاح او المُقاطعَة، ونَزيف الدّم والمَوارد.
بمجرّد أن يتصوّر طرف أنّ بإمكانِه أن يَستوليَ على الدّولة أو يَخلق دُويلَة خاصّة به يُعرِّض الجميع إلى أزمة التفكك
في مكانٍ آخر، نجد ما يمكن أن يُسمّى بجماعات "دون الدّولة"، وهي الجماعة التي لا تؤمن بالدّولة، وتتبع دولةً أخرى بسببٍ إيديولوجي، او لا تؤمنُ بالدّولة أصْلًا، وتعتقد لسببٍ عُنصريّ او عقائديّ، أنّها فقط المَنوط بها الاستيلاء على الدّولة، المِثال الأوضَح هو تجربة "حزب الله" في لبنان، الذي يتجاهل الدّولة، من أجل الالتحاق بقوةٍ إقليميّةٍ لسببٍ طائفي شعاراتيّ، او من جهة أخرى قوى قَبليّة تحيط نفسَها بإيديولوجيّة تُراثيّة، كمثلِ ما يحدث في اليَمن.
على البُقعة العربيّة السّياسيّة منذ ثلاثة أرباع قرن، سادَت تلك الأفكار التي ليس لها علاقة بالواقِع الذي تعيشه الدّولة العربيّة ومجتمعاتهَا الّتي تتّصف بالتّنوّع، لأنّه في المُجملِ تلك الأفكار السّياسيّة تتجاوز الفُروقات الاجتماعيّة والمَذهبيّة والعِرقيّة المحلّيَّة، في سبيل تكوينِ وحدةٍ افتراضيّة على الوَرَقِ، قائمةً على قَمع الآخر الشّريك في الوَطن وتهميشِه.
الحَقيقَة الاجتماعيّة المَعروفَة والسَّائِدَة، أنّه ليس هناك مُجتمع حَديث مُكوَّن من نوْعٍ واحدٍ من البَشر، ففي المُجتمع الإنساني الحديث اختلافُ إثنيّات، ولغات، ومذاهب، وألوان بشرة، فلا يوجد توحّد كامل، إلّا في المجتمعاتِ الأوّليّة المُنعزلَة، وحتّى تِلك تكاد تَختفِي.
قيام الدّولة الوَطنيّة العادلة لا يعني الانعزال ولا يمنع قيام تكتّلات مَصلحيّة تجمع المصالح المشتركة
الدّولة الوَطنيَّة تضمّ ألوان الطَّيْف في المجتمعِ الواحِد، ضمن حدود مُعترف بها دَوليًّا، ولذلك فإنّ بَقاءهَا ونجاحَها مرتبطان بوجودِ مجموعةٍ من القِيَمِ، التي كثيرًا ما تُعرف بالدّستور، والذي يَعترفُ بالتعدّد، كما يؤكّد المُساواة في الوَطن من خلالِ قوانينٍ تُسَنُّ بالتّوافق بيْن الأطرافِ المُختلفة، وتُطبَّق بتجرّد، وبمجرّد أن يتصوّر طرفٌ أنّ بإمكانِه أن يَستوليَ على الدّولة، أو يَخلق دُويلَةً خاصّةً بِهِ، تحت شعار الخُصوصيّة أو "الأدلجة"، أو أن يصهر الجميع في مَصْهَرٍ واحدٍ، بسبب العِرق أو المَذهب أو الدّين أو الاجتهاد السّياسي، يُعرِّضُ الجميع إلى أَزْمَةِ التّفكّك، وسُقوط الدّولة، وتَدخُّل الآخرين في شؤونِها، لاستنزاف المجتمع والدّولة معًا.
قِيامُ الدّولة الوَطنيّة العَادِلَة، التي تضمّ طيفَ التّنوّع الاجتماعي داخلَ حدودِها، لا يَعني الانعزال، فهو لا يَمنَع التّعاون مع الآخر، ولا يمنعُ قيام تَكتُّلات مَصلحيّة تجمعُ المَصالحَ المُشتركة على قاعدةِ المُساواة، وتَنْأَى بنفسِها عن النِّزاعات، ولكن ذلك لا يعني الذَّوبَان الإيديولوجي الذي يَتجاهل صالحَ ومطامحَ القِوى المختلفة في المُجتمع.
إن استمرَّ التّفكير العربي في قبْضة الماضي "التّراثي او السّياسي" فإنّ الأزمات التي خَبِرناها سوف تَتَكَرَّر وبشكلٍ أكثر ضَراوَة.
(خاص "عروبة 22")