العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

عامٌ مُظلم تكنولوجيًّا: سِلعٌ وهميّة وأجهزة قاتلة!

الثلاثاء 16 سبتمبر/أيلول 2024، استيقظ أهالي لبنان على انفجارِ عددٍ كبيرٍ من أجهزةِ الاتّصال اللّاسلكي المَحمولَة (البيجر)، وأيقن الكثيرون من الشّرق والغرب أنّ الكيان الصّهيوني يقفُ وراءَ هذه التّفجيرات عبرَ التّلاعب بالأجهزةِ والتّحكم بها عن بُعد، بغرضِ ضربِ وتصفيةِ قدراتِ "حزب الله".

عامٌ مُظلم تكنولوجيًّا: سِلعٌ وهميّة وأجهزة قاتلة!

أعادَ ذلك بناءَ سرديّةِ "حصان طروادة"، الهديّة الذّكيّة المَصنوعة من خشب والتي قدّمها الإغريق للطرواديّين، في ظاهرِها عربونَ سَلامٍ وتَساكُن، وفي جوفِها جنود تقتيلٍ ومخاطر. في المساء، وبعدَ أن تظاهرَ الإغريقُ بالانسحاب، أدخل الطرواديّون الحصانَ لمدينتهِم احتفالًا بانتصارهِم، ثم ما لبثَ أن خرج الجنودُ ليلًا وفتحوا أبواب جهنّم على مدينة طروادة، ليدخلَ الجيشُ الإغريقي ويشنَّ حربًا مُباغتَة، أدّت إلى سقوط مدينة طروادة سريعًا ومن دون مقاومة.

شَدّت حوادثُ تفجيرِ أجهزةِ "البيجر" انتباهَ العالم نحو مخاطرَ غير مألوفَة، هدّدت مستقبلَ العديدِ من الشّركات المُتخصّصَة في مجال التّكنولوجيا الرّقميّة والاتّصال، على اختلافِ جِنسيّاتِها ومَواقعِها الجُغرافيّة، بفعلِ تهاوي ثِقة ملايينِ المُستخدِمين حوْل العَالم بسلامةِ المُنتجاتِ التي يَصنعونهَا (هواتِف وبطاريّات، ورقاقات إلكترونيّة) من جهة، خاصّة مع زيادةِ تَعقّد التّشبيك التّسويقي والإنتاجي لهذه الشّركات، واعتمادِ صفاتِ المَجهوليّة وتعدّد الجِنسيّة للكثيرِ من فروعِها من جهة أخرى.

فقدان الثّقة في السِّلع والمُنتجاتِ التي تَعرضُها الشّركات العالميّة تمدَّد ليَشملَ خُصوصيّات التّواصل الرّقمي

وعلى الرّغم من تَزايُد الاهتمامِ بسياساتِ الخُصوصيّة الصّارمة، بخاصّة في بلدانِ الاتّحاد الأوروبّي والولايات المتّحدة الأميركيّة، إلّا أنّ كثيرًا مِن المِلفّات السِّريّة التي تمّ كشفهَا (فضيحة كامبريدج - أناليتيكا، ملفات سنودن، شهادات موظفي فيسبوك وأمازون...)، تؤكّد أنّ الشّركات العالميّة المُنتجَة للتّكنولوجيا الرّقميّة، غالبًا ما تَتبادَلُ بَيانات مُستخدَميهَا وزَبائنِها مع هيئاتٍ وكياناتٍ أخرى، مَجهولَةٍ ومُعقّدةٍ، تَتداخلُ فيها مؤسّساتٌ حُكوميّة وغيْر حُكوميّة، تَتوزّع في إطار سلاسِل إنتاجٍ وتَوريدٍ عُنقوديّةٍ مادّيّةٍ ووَهميّة، داخلَ نطاقٍ جُغرافي عَالميّ سائلٍ غيْر قابلٍ للتَتبّع والرّصد، الأمر الذي أثارَ قلقًا عالميًّا حول تراجُعِ الثّقة بِمصداقيّة الشّركات ومُستوياتِ الأمانِ التي تَعِدُ بها مُستخدَميهَا في جميع أنحاء العالم، وتَحوّل وعيًا عالميًّا لم يَنْجَحْ الكِيانُ الصّهيوني وأذرعُه العالميّة في التّغطيّة عليه وتجاوزِ تأثيراتِه، إلّا بأحداثٍ أعظم تَلَت حادثَ التّفجيرات.

فُقدانُ الثّقة العالمي في السِّلع والمُنتجاتِ التي تَعرضُها الشّركات العالميّة، تمدَّدَ أيضًا ليَشملَ خُصوصيّات التّواصل الرّقمي/الشّبكي، والبَيانات التي يتركُها المُستخدِمون وراءَهم على الشّبكات، ومن ثُمّ مدَى صَلاحيّة مجتمع "المُراقبَة الشّاملة والمُراقبة السّائلة"، والتي جعلت الحُدودَ بيْن الشّركات والحُكومات غير واضحةٍ، حيث يتمّ تبادُلُ الخَدماتِ والمَنافع بِيُسْرٍ وسهولةٍ، إذ جُعِلَت البيانات المُجمَّعة من قبل الشّركات (الشّبكات الاجتماعيّة، المَتاجر الإلكترونيّة، شبكات الهواتِف المَحمولة، مزوّدو الإنترنت، شركات التّأمين، التّطبيقات والمِنصّات وما إلى ذلك) بسهولةٍ في يد الجهاتِ الحكوميّة، مثل أجهزةِ الاستخباراتِ والسّلطاتِ الأمنيّة. والعَكس بالعَكس صحيح، إذ قد يَتِمُّ تسليمُ البياناتِ المُجمَّعةِ من قبلِ المُؤسّساتِ الحكوميَّةِ أو حتّى بيعَها إلى الجهاتِ الخاصّة.

عند هذا المستوى، وَجَبَ الانتباه إلى المسارِ الذي وصلتهُ "رأسماليَّة المُراقبة"، والذي يشمل تَطوّرَيْن مُهمَّيْن: 

أولًا، ظهورُ الأهمّية المُتزايدة لسلعةٍ جديدة - البَيانَات (خصوصًا بيانات المُستخدِم)، بالنّسبة للمِنصّات العالميّة الأربع والمُشار إليها بالاختصار GAFA، فغالبًا ما تتبادَل بيانات المُستخدِمين كسِلعٍ تدرُّ عليهَا أرباحًا طائلةً، هذه السّلع يمكن إضافتُها إلى قائمةِ المُؤرّخ كارل بولاني لثلاثِ سلعٍ وهميّة. في كتابهِ "التّحوّل الكبير"، عرّف بولاني "السّلع الوهميّة بأنّها الأشياء التي لا تُنتَجُ للبيع، ولكنّها تُصبح قابلةً للبيع تحت ضغطِ الرّأسماليّة، حيثُ تُصبحُ بيانات المُستخدِمين أكثر وهميّة، ليس فقط لأنّها غير مُنتجةٍ للبيع من قبل المُستخدِمين (الذين يدخلون الانترنت بغرض التصفّح أو التّواصل)، ولكنّها أيضًا افتراضيّة ولا وجود ماديًّا لها، لأنّها سِلع وَهميّة قائمة على سلاسِل عدديّة من بتاتيّ الصّفر والواحد.

التّعامل مع بيانات المُستخدِمين كسلعة قد تتحوّل في بعض السّياقات والظّروف إلى سِلَع قاتلة

التّطوّر الثّاني الذي تشهده "رأسماليّة المُراقبة" هو "زيادة أهمّية ما يمكن تسميتُه بِرَأْسِ المَال المِنَصّاتِي، حيث ساهم اتّساعُ حجمِ المِنصّات وزيادة نسبة مُشتركيهَا على نحوٍ عالمي، بفعلِ طابعِ الوُلوج المجّاني الذي أُسبِغ عليها، في تعاظم رأسمال هذه الشّركات وسيطرتها عبر نظامٍ مُتكاملٍ من المُراقبة والتّصنيف. ما يعنيه ذلك هو أن المُراقبة والسّطو المُتزايِد على خصوصيّة المُستخدِمين، أصبح يدرّ على أصحابه أموالًا طائلةً، حيث تشتري الحُكومات في جميع أنحاءِ العالم بَرمجيَّات التَّجسُّس الأشدّ تَطوّرًا وتَطفّلًا وتسمحُ في الوقتِ عينه ببيْعِها، الأمر الذي يزيد من احتمالات التّعامل مع بيانات المُستخدِمين كسلعةٍ قد تتحوّل في بعض السّياقات والظّروف إلى سِلَعٍ قاتلةٍ، عندما يتمّ التّلاعب بأساليبِ العرضِ الرّقمي للمَنتوج (أجهزة البيجر المُفجَّرة في لبنان تمّ التّرويجُ لها بكثافةٍ على منصة يوتيوب)، أو تغيير وظائفِ الأجهزة عبر إضافةِ وظائف غير مُصرّحٍ بها أو "أبوابَ خلفية" قد تُستخدم لخلق ثُغُرَاتٍ للتّخريب أو الهجمات الإلكترونيّة، وقد تمرّ من دون أن يلاحظَها المُستخدِم النّهائي عبر التّلاعب بسلاسِل التّوريد، مما يحوّلها فعليًا إلى "أحصنة طروادة" قاتلة.

التّجسُّس على بيانات المُستخدِمين والتّلاعب في سلاسل الإنتاج والتّوريد أسلحة مُميتة ستغيّر وجه الحروب

في عالمٍ "لامتوازِنٍ"، تميلُ فيه القوى الإمبرياليّة وشركاتُها العالميّة نحو التحكّم في الإنتاج المادّي والوهميّ للسّلع، والتحكّم الرّقمي - الاتّصالي، يُصبح التّجسُّس على بيانات المُستخدِمين، والتّلاعب في سلاسلِ الإنتاجِ والتّوريدِ أسلحةً مُميتةً ستغيّر وجهَ الحروبِ المُقبلة إلى الأبد، سواء تلك التي تقودها الدّول أو الجماعات، ممّا يَستدْعي يقظةَ أولئك الذين يَقعونَ خارجَ عالم التحكّم هذا، للتّوجّه نحو الهيئاتِ القضائيّةِ العالميّةِ كمحكمةِ العَدْل الدّوليّة والجنائيّة الدّوليّة، والضّغط من أجل توسيع التِّرسانة القانونيّة لحماية المُجتمعات، وتعزيز الأمنِ والشَفافيّة والحدّ من هيمنةِ المنصّات العالميّة على مصيرِ الدّول والشّعوب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن