وقد رأينا انتشارًا محمومًا للتّيّارات الشّعبويّة التي تنقلب على الدّيموقراطيّة سواء بمعناها الليبيرالي أو حتى الإجرائي على المستوى العالمي من الولايات المتّحدة إلى المجر وبولندا، ومن البرازيل إلى الهند، ومن المملكة المتّحدة إلى أستراليا ونيوزيلندا، كما ثبُت بالتّجربة العمليّة أنّ الضّغوط السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة التي تمارسُها بعض الدّول الغربيّة بحجّة نشر الدّيموقراطيّة قد شابَها الكثير من الرّغبة في تحقيق المصالح الذّاتيّة المُتعلّقة بسياساتِها الخارجيّة وتوازُناتِها العالميّة والإقليميّة، فضلًا عن ازدواجيّة المَعايير المُفرِطة التي صاحبت تلك الضّغوط. لكن وعلى الرّغم من كل هذه المَثالب، تظلّ الدّيموقراطيّة هي النّظام الأفضل والأكثر قدرةً على تمثيل مصالح المُواطنين، ومن ثمّ تحقيق الاستقرار والأمن القومي!
الديموقراطية أحد أهمّ السُّبُل نحو تحقيق أمن الإقليم العربي المُخْترق بشدّة هذه الأيام
أثبتت معادلات السّياسة في العالم العربي منذ 2010 على الأقلّ، أنّ كلّ الأنظمة البديلة للدّيموقراطيّة لم تحقّق الاستقرار، بل على النّقيض من ذلك، كانت - وما زالت - سببًا في عدم الاستقرار وانتشار الغضب الشّعبي وعدم الثّقة التي تزداد بيْن الحكّام والمحكومين في عددٍ مُعتبرٍ من الأنظمة العربيّة، ولعلّ ما يُمكن أنْ نُطلق عليه الموجةَ الثّانيّة من الانتفاضات العربيّة التي انطلقت منذ 2019 في الجزائر والسّودان ولبنان كفيلة بأن تقنعنَا بنتيجةٍ واحدة واضحة "كلّ المُعادلات السّياسيّة غيْر الدّيموقراطيّة ربّما تشتري للأنظمة بعضًا من الوقت، لكنّ الانفجارات الشّعبيّة تظلُّ مُحْتَمَلَةً في أيْ لحظة!".
من المؤكّد أنّ الثّورات والانتفاضات ليست حلًّا بل أثبتت التّجربة العمليّة أنّها كانت بدايةً لحلقات مُفرغة من انعدام الأمن والسّبب في المزيد من التّدهور الاقتصادي، وبالتّالي فالصّورة الآن أوضح، لا معادلات الحُكم الحاليّة، ولا الانتفاضات والثّورات هي الطّريق نحو الاستقرار وتحقيق الأمن القومي بمفهومه الواسع الذي يشمل أمنَ المواطن والدّولة لا أمن النُّظم الحاكمَة فقط، ومن ثمّ ليس هناك إلّا طريق ثالث يُسمَّى الدّيموقراطيّة والدّعوة إليه ليست مثاليّةً، ولكنّها دعوة براغماتيّة بحْتة، فيها مصلحة جميع عناصر الدّولة الوطنيّة من شعبٍ وأرضٍ وسيادةٍ ونُظمٍ حاكمَة، فضلًا عن أنّها أحد أهمّ السُّبُل نحو تحقيق أمن الإقليم العربي المُخْترق بشدّة هذه الأيام!
يُمكن لدُولِنا العربيّة أن تبحثَ عن نُسَخٍ أكثر مراعاةً للحساسيّة الثّقافيّة قد تكون ديموقراطيّة مؤسّسيّة/إجرائيّة
من المعلوم أنّ الدّيموقراطيّة تواجه بقدرٍ معتبرٍ من الحساسيّات الثّقافيّة في العالم العربي، سواء لارتباطها تاريخيًّا بالاستعمار والتّدخّل الخارجي أو لأنّ أحد تطبيقاتِها - وخصوصًا في النّسخة الغربيّة منها - وثيق الصّلة بالعلمانيّة وإبعاد الدّين عن المساحة العامة وهو أمر قد يكون مُرْبِكًا للشّعوب العربيّة. وعلى الرّغم من ذلك فلا بدّ هنا أن نَنْظُرَ بشكلٍ أعمق من مجرّد الانشغال بالمُسمّيات، فبعض الأنظمة العربيّة غيْر الدّيموقراطيّة عرفت وتعرف أشكالًا مختلفة من التّحديث القائم على العِلمانيّة، ولم تنتفض شعوبها رفضًا للبُعْد العِلماني في التّحديث بقدر ما كانت هذه الانتفاضات تعبيرًا عن السّخط من الظّروف الاقتصاديّة والقبضة الأمنيّة الهائلة.
على كلّ حال، فالنّسخة اللّيبيرالية/العِلمانيّة ليست هي الوحيدة القابِلة للتّطبيق، فقد نجحت نُسَخ أخرى من الدّيموقراطيّة في تحقيق قدرٍ من الاستقرار والنّمو الاقتصادي والتّحديث المُعْتَبَر في بعض التّجارب القريبة بنيويًّا من العالم العربي، فتجارب الدّيموقراطيّة التي شهدتها دول مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل نجحت بقدرٍ معقولٍ على الأقلّ لفترات زمنيّة محدّدة، ولم تكن هذه الدّول تُطبِّق النّسخة الغربيّة بأبعادها العِلمانيّة/الليبيرالية، فيُمكن لدُولِنا العربيّة إذن أن تبحثَ عن نُسَخٍ أكثر مراعاةً للحساسيّة الثّقافيّة وأكثر عمقًا من مجرّد اتّباع مجموعة من الإجراءات الشّكليّة، لكنّها قد تكون ديموقراطيّة مؤسّسيّة/إجرائيّة موجّهة بالأساس نحو تحقيق التّنمية الشَاملة المُستدامة، ومبنيّة بالأساس على نماذج المواطَنة والحكم الرّشيد!.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")