اقتصاد ومال

مصر و"الصّندوق"... أما لهذا النّفق من نهاية؟!

مَرَّت ثَمانيَةُ أعوام على بدءِ الحكومةِ المِصريَّةِ في تنفيذِ البرنامجِ الاقتصادي بالاتِّفاقِ مع "صُندوقِ النَّقد الدَّولي". ودائمًا تسودُ توقُّعاتٌ مُتشائمَةٌ لدى المُواطنين فيما يتعلَّق بمستوياتِ معيشتِهم والقُدرَة الشِّرائيَّة لدخولِهم أي جولة مفاوضاتٍ جديدةٍ مع الصُّندوق.

مصر و

بما أنّ البَيانَاتِ هي الأكثر دقَّةٍ في التَّعبير عن نتائجِ تطبيقِ أي برنامج اقتصادي، فإنَّ البياناتِ الرَّسميَّة المَنشورَة في تقاريرِ "الصّندوق" تُشيرُ إلى أنّ معدّل ارتفاعِ أسعارِ المُستهلكِين (التَضَخُّم) قد بَلَغَ 33.3% عام 2024، وهو ما يَعني المزيد من الإفقارِ لأصحاب الدُّخول شِبْهِ الثّابتَة من أربابِ المعاشاتِ وأُسَرِهِم والعاملين بأَجْرٍ، علمًا أنّ معدَّل الفقرِ في مصر بلغَ 32.5% قبل أربعةِ أعوام، عندما كان سِعرُ صرفِ الدُّولار نحو 15 جنيهًا، ومع ارتفاع سعرِه إلى أكثر من 50 جنيهًا في الوقتِ الحالي بما يتبعُه من ارتفاعٍ في أسعارِ الوَارداتِ ومن بعدِها كلّ السّلع والخدمات، فإنّ القُدرةَ الشرائيَّة للدَّخل تَتَآكَل، بما يضاعفُ معدَّل الفقر.

صندوق النقد يُعبّر بشكل عميق عن مواقف ومصالح الدّول الغربيَّة المُسيطرة عليه

كما بلغ معدَّل النُّموِّ نحو 2.7%، وبلغَ عَجْزُ ميزانِ الحسابِ الجاري نحو -6.6% من النَّاتج المحلِّي الإجمالي في عام 2024. وأصبحَ سعرُ الفائدةِ الحقيقي سلبيًّا بنحو -6.3% (سعر الفائدةِ الحقيقي = سعر الفائدة - معدّل التضخّم)، وهو أمرٌ يُشجِّعُ على تجميدِ المُدَّخرات في صورةِ ذهبٍ أو أراضٍ وعقاراتٍ، على حساب الادّخار المَصرِفي الفعَّال. كذلك ارتفعت الدُّيون الدَّاخليَّة لتصلَ إلى نحو 15 تريليون جنيه في العام المالي الرّاهن، والدُّيون الخَارجيَّة إلى 168 مليار دولار في بداية عام 2024، قبل أن تنخفضَ إلى 160.6 مليار دولار في نهاية مارس/آذار 2024، بعد صفقة "رأْس الحكمة".

"الصُّندوق" وكيلٌ للرَّأسماليَّة العالميَّة يُنتج الأزماتِ بنصائحهِ "الذّكيَّة"

على الرَّغم من الاستقلالِ الظَّاهري لـ"صُندوقِ النَّقدِ الدَّولي"، إلّا أنّه يُعبِّر بشكلٍ عميقٍ عن مواقف ومصالح الدُّول الغربيَّة المُسيطرة عليه. وعندما تقتضِي تِلك المصالحُ أن يتجاوز أُسُسَ عملِه فإنَّه يفعل ذلك ببساطة، كما حدث في الأزمة الماليَّة المكسيكيَّة عام 1995، والأزماتِ الماليَّة لدول شرق وجنوب شرق آسيا التي بدأت في مُنتصف عام 1997 واستمرّت لمدة عامَيْن. إنّه ببساطةٍ وكيلُ الرَّأسماليَّة العالميَّة والدُّول الكُبرى، ومجرّد إطارٍ مؤسَّسيٍ دوليٍ يُجَسِّدُ تصوُّرات الدُّول الرَّأسماليَّة الكبرى حول النِّظام الاقتصادي الدَّولي.

والصُّندوق لا يُراعي اختلافَ مُستوياتِ تطوُّر الاقتصادات النَّاميَة والأقلّ نُموًّا، أو اختلاف الظُّروف الَتي تمرُّ بها، فلديْه وصفَة إيديولوجيّة جامِدة وموحَّدة لكلِّ الاقتصاداتِ المُتعثِّرة التي تلجأ إليه طلبًا للقروضِ أو لإعادةِ جَدْوَلَةِ الدُّيون القَديمَة، تتركّزُ في انسحابِ الدَّولةِ من النَّشاط الاقتصادِي وحصْرِ دورِها في إقامةِ البنيَة الأساسيَّة، وفتحِ الاقتصادِ الوطني أمام الاستثماراتِ الأجنبيَّة بلا تمييز، وتحريرِ التِّجارة الخَارجيَّة، وتخفيضِ سعر صرْف العملَة المحلِّية وتحريره كلّيًّا (التَّعويم)، وإزالةِ الدَّعم السِّلَعِي، والتّحوُّل إلى الدَّعم النّقدي فيما يتبقَّى من دعمٍ، وزيادةِ الضَّرائب غيْر المُباشرة الّتي يتحمَّلها الفُقراء والطبقة الوسطى بالأساس.

الاقتصادات التي تُعاني من الدّيون والعجز تحتاج لتنشيطِ القطاعات الإنتاجيَّة كمُحرِّك للاقتصاد وللإحلال محلّ الواردات

خلال أزمتَيْ "كوفيد 19" (كورونا)، و"الحرب الرُّوسيَّة – الأوكرانيَّة" المستمرَّة حتى الآن بكل تداعياتِهما الاقتصاديَّة، أضاف "الصُّندوق" إلى نصائِحهِ، ضَرورة التَّوسُّع في الإنفاقِ العام. وتِلك النَّصيحَة جائزة بالنِّسبة للاقتصاداتِ الَتي يُحرِّكها الطَّلب الفعَّال وتحتاجُ لتنشيطِه في أوقاتِ الأزمات، لكنّها نصيحَة باهظَة التَّكلفَة وغيْرَ ملائمةٍ للاقتصادات الّتي تُعاني من الدُّيونِ والعجزِ الكبيرِ في المَعروضِ من السِّلع والخدماتِ بما يُضطَّرُّها للإفراط في الاستيراد، كما تُضطَّرُّ للاقتراضِ الدَّاخلي والخَارجي لتَمويلِ زيادةِ الإنفاقِ العام التي دعا إليها "الصُّندوق". إنَّ تِلك الاقتصاداتِ تحتاج لتنشيطِ القطاعاتِ الإنتاجيَّةِ كمُحرِّكٍ للاقتصادِ وللإحلالِ محلّ الواردات.

طفراتُ الإنفاقِ العامّ ونصائحُ "الصُّندوق"

قِلَّةٌ من الدُّول النَّاميَة المَدِينَةِ هي التي طبَّقت نصيحةَ "الصُّندوق" بالتَّوسُّع في الإنفاقِ العامّ لتفادي الرّكود خلال أزمتَيْ "كورونا" و"الحرب الرُّوسيَّة - الأوكرانيَّة". وكانت مِصر من بين تِلك القِلّة التي طبَّقت تِلك "النَّصيحة". وتجسيدًا لذلك التّطبيقِ ارتفعَ الإنفاق العامّ وفقًا للبيانات الرَّسميَّة بنسبة 10%، و16%، و19.3%، و37.3%، و29% في الأعوام المالية 2020 - 2021، و2021 - 2022، و2022 - 2023، و2023 - 2024، و2024 - 2025 على التّوالي، علمًا أنّ الزيادةَ في الإنفاقِ العام في العام المالي 2019 - 2020 والذي أُعِدَّت موازنتُه قبل انفجارِ أزمة "كوفيد 19"، بلغت 4.7% فقط. وساهمَ ارتفاعُ معدَّلِ التَّضخُّم، وكذلك تَزايُد خدمةِ الدُّيون في تَضخُّم ذلك الإنفاق. وكانت النَّتيجة المَنطقيَّة للزِّيادة الكبيرة في الإنفاق العام هي الزِّيادة الهائلة في الدُّيون الدَّاخليَّة والخّارجيَّة، وتَفاقم العجز في ميزان الحساب الجاري كما ورد آنفًا، في ضوء تركيزِ الاستثمارات على البنيَة الأساسيَّة والقطاعِ العقاري، من دون القِطاعات الإنتاجيَّة التي يمكنُها تحسين الموازين الخَارجيَّة من خلال الإحلال محلّ الواردات أو التّصدير.

والمُلفتُ أنّ ذلك التزايدَ الكبيرَ في الإنفاق العام، ترافقَ مع هُزالِ الإنفاقِ على القِطاعاتِ الحيويَّة مثل الصِّحة والتَّعليم، حيث بلغَ الإنفاقُ العامّ على التَّعليم كنسبةٍ من النَّاتج المحلّي الإجْمالي نحو 1.7%، وبلغ الإنفاقُ العام على الصِّحَّة نحو 1.2% من ذلك النّاتج في الموازنةِ العامّة للدَّولة لعام 2024 - 2025، خلافًا لما ينصُّ عليْه الدُّستور من ضرورةِ إنفاق 6% من النّاتج القومي على التّعليم، و3% على الصِّحَّة كحدٍّ أدنى.

الحكومة المصريّة ما زالت تبحثُ عن حلٍّ لأزماتِها من خلال إعادة إنتاج السِّياسات عينها التي أنتجَت الأزمة

وعلى الرَّغم من أنَّ تطبيقَ البرنامجِ المتَّفقِ عليه مع "صُندوق النّقد الدّولي" قد أفضى لأزمةٍ واضحةٍ من تَدهوُرٍ كبيرٍ لسعرِ صرفِ الجنيه، وارتفاعِ أسعارِ الطَّاقة وزيادةِ الضَّرائب، وانفجارِ موجاتٍ من الغلاءِ، وارتفاعِ مُعدَّل الفَقر، وتفاقمِ عجزِ الموازين الخَارجيَّة، وارتفاعِ الدُّيونِ الدَّاخليَّة والخَارجيَّة على نحوٍ غير مسبوق، إلّا أنَّ الحُكومةَ المصريََّةَ ما زالت تبحثُ عن حلٍّ لأزماتِها من خلال تطبيقِ البرنامجِ عينِه وإعادةِ إنتاجِ السِّياساتِ عينِها التي أنتجَت الأزمة، بما يعني الاستمرار في النّفقِ الذي دخله الاقتصاد بسببِها.

لقد غيَّبت الحكومةُ فِقْهَ الأوْلويَّات، فَتَبَعْثَرَت طاقة الاقتصاد في الأقلّ أهميَّة وأولويَّة بالنِّسبة لتحقيقِ التَّنميةِ، فالحكومةُ ركَّزَت الجهودَ على القِطاع العِقاري وذروته العاصمَة الإداريَّة على الرَّغم من التُّخمة العقاريَّة المِصريَّة، وعلى البِناءِ والتَّشييدِ والطرقِ والكباري والأنفاقِ والمونوريل ومضاعفةِ المقرَّات الحكوميَّة، بدلًا من التَّوجيه الضَّروري للطَّاقات العامَّة والخاصَّة والتَّعاونيَّة لقطاعِ الصِّناعاتِ التَّحويليَّةِ والزِّراعيَّة، والصِّناعات عاليةِ التِّقنيَّة، والصِّناعات الإبداعيَّة التي تملكُ مصر ميزاتٍ نِسبيَّة كبرى فيها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن