الاقتصاد العربي.. وضرورات التكامل

"البطالة" في الوطن العربيّ: تدبيرُ الأزمة في زمن الرّأسمالية

محمد زاوي

المشاركة

تَعْرِفُ نِسبُ البَطالةِ في الوطنِ العربي ارتفاعًا مَلحوظًا، بحيث بلغَت نسبتُها في مِصر 6.70 في المئة العام الماضي (2024)، وفي تونس 16 في المئة، وفي الجزائر 11.8 في المئة، وفي لبنان 11.7 في المئة، وفي المغرب 13.1 في المئة، وفي العراق 15.6 في المئة، وفي ليبيا 18.5 في المئة، وفي الأردن 21.4 في المئة... إلخ. بينما تُسَجِّلُ دولُ الخليج نِسَبًا مُنخفِضةً في معدَّلات البّطالة، وهو ما يفسَّر باستفادتِها من ثَرواتِها الطَّبيعيَّة من نفطٍ وغازٍ طبيعي. وهنا يجبُ التَّركيز على الاستفادةِ من وُجود مؤهّلات ذاتيَّة للاستفادة من النّفطِ والغاز، وهذا ما يظهر جَليًّا بمقارنةِ السَّعوديَّة (نسبة البطالة: 3.5 في المئة) بالجزائر (نسبة البطالة: 11.8 في المئة)، وهنا يظهَر الفارقُ الكبيرُ بين البلدَيْن، على الرّغم من اعتمادهِما معًا على النّفط كموردٍ اقتصاديٍ أساسِي.

يجب أن نتساءلَ بعد عرضِ هذه المُعطيَات عن العواملِ الرَّئيسيَّة لانتشارِ البَطالة وتفاقُمِ نسبِها في دُول الوَطن العربي، لأنَّ الأمرَ ليس مرتبطًا بالسّياسات الحُكوميَّة أساسًا، بل بقانون الرّأسمال في الدَّاخل والخَارج.

السُّوق الدّاخليَة خاضعة لمنافسة بين الرّأسمال الوطني والرّأسمال الأجنبي

صحيحٌ أنَّ الحكوماتِ تُؤثِّر بقراراتِها وسياساتِها في الاقتصاد، إلّا أنّ تأثيرَها لا يخرجُ عن الحدودِ التي يرسمُها الرّأسمال الدّاخلي في علاقتِه بالرّأسمال الأجنبي. ولذلك، فالبَطالة في الوطن العربي مرتبطة أساسًا بالنّظام الاجتماعي الرَّأسمالي، بالرَّأسمال المحلِّي، والرَّأسمال الأجنبي المُستثمِر داخليًّا، والرَّأسمال العالمي كإطارٍ لكلِّ رأسمالٍ يتحرّك على الأرض.

يوجد رأسمالٌ محليٌ/وطنيٌ في كلِّ دولةٍ عربيَّة، هذا الرَّأسمال لا يُسيْطر بشكلٍ مُستقلٍّ على السُّوق الدَّاخليَّة/الوطنيَّة، بل هي خاضعةٌ لمنافسةٍ بينَه وبيْن الرّأسمال الأجنبي، وفي حالاتٍ بعينِها أو قِطاعاتٍ بعينِها قد يُسَيْطر عليه الرّأسمال الأجنبي في سوقِه، أي السُّوق الوطنيَّة عينها.

إنَّ سيطرةَ رأسمالٍ أجنبيٍ في هذه الدَّولةِ العربيَّةِ أو تِلك لا يُكْسِبُهُ سيطرةً عالميَّةً بالضّرورَة، بل قد يُصبح خاضِعًا لسيطرةٍ رأسماليّة أكبر منه خارج حدودِ نفوذِه الخاضِعَة بدورِها لما يُسمَّى في الاقتصادِ السّياسي بـ"التَّقسيم الدَّولي للعمل"، أي اقتسامُ العملِ بيْن كبار الرَّأسماليّين على أساسِ قواعِدِ السُّوق وقانون الرّأسمال. وعليه، فإنَّ البطالةَ في كلّ دولة، بما فيها الدُّول العربيَّة، خاضعة للتَّقسيم المَذكور.

الدُّول العربيَّة مُطالبة بسياسة متوازنة تجمع بين تحرير الرَّأسمال وضبطِه

وهنا تُطرحُ أربعةُ أسئلة أساسيَّة على الأقل:

إلى أيّ حدٍّ تستطيع الدُّول العربيَّة تنظيمَ الرَّأسمال العام وضبط الرَّأسمال الخاصّ؟

وإلى أي حدٍّ يستطيع الرَّأسمال الخاصّ القيامَ بإصلاحاتٍ لفائدةِ العمَّال والعاطِلين في هذه الدُّول؟

وإلى أي حدٍّ تستطيعُ الدَّولةُ فرضَ شروطِ التّشغيلِ والاستثمارِ على الرَّأسمال الاستثمارِي الأجنبي بما يَكفي لتَخفيف حِدَّةِ البَطالة؟

وإلى أي حدٍّ يستطيع الرَّأسمال الدَّاخلي الصُّمودَ في مواجهة الرَّأسمالِ العالمي، أي في تدبير "التَّقسيم الدَّولي للعمل"؟

هذا هو مجال السّياسات الحكوميَّة في الوطنِ العربي، تُدبرُ من خلالِه أربعُ إشكاليَّات:

إشكاليَّة تنظيم الرّأسمال الوَطني: إنَّ ارتباطَ حركيَّة الرَّأسمال بالرِّبحِ يجعله عصِيًّا على الضَبطِ والتَّنظيم. وعلى الرَّغم من مساحةِ الضَّبط الَتي يمكنُ فرضُها على الرَّأسمال العامّ عن طريقِ تأمين المَرافقِ والشَّركاتِ والقطاعاتِ، إلَّا أنَّ مَردوديَّتَه الإنتاجيَّة تبقى محدودةً ولا تؤدّي الغرضَ منها في تقدُّم الإنتاج. أمّا الرَّأسمال الخاصّ المُحرَّر من قيْدِ الدَّولة فهو يُبعثرُ أولويَّاتِها ويجعلُها رهينةَ السُّوق أكثرَ من حاجاتِها ومطالبِها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وهو ما يؤثِّر على اليدِ العاملة ونِسبِ البطالةِ عينها بفعلِ المَكْنَنَةِ وحاجة الرَّأسمال إلى "المُزاحمةِ على العمل" (راجع "العمل المأجور ورأس المال" لكارل ماركس)، وبالنَّتيجَة، الدُّول العربيَّة مُطالبةٌ بسياسةٍ متوازنةٍ تجمعُ بين تحريرِ الرَّأسمال وضبطِهِ بما يفتح مَزيدًا من فُرص الشَغلِ في وجه العَاطلِين عن العمَل.

إشكاليَّة مُساهَمة الرَّأسمال الوَطني: الرَّأسمال له قانون، وتحكمُه قاعدةٌ اقتصاديَّةٌ، فبديهيٌ أن يتعاملَ مع اليدِ العاملةِ والعاطِلين ككلّ رأسمالٍ في عالَم رَأسمالي؛ إلَّا أنّه قابِل لمساحةٍ من الضَّبط وفرضِ شُروط الدَّولة. وبالتَّالي، فكلُّ دولةٍ عربيَّةٍ قادرةٍ على فرضِ بعضِ شروطِ التَّشغيلِ والاستثمارِ على الرَّأسمال الوَطني حفاظًا على تَوازنٍ اجتماعيٍ هو نفسه يستفيد مِنه. والحالُ أنَّ مجالَ هذا التدخُّل من طرفِ الحكومات العربيَّة هو مجالُ تفاوضٍ بينها وبين الرَّأسمالات، تحرصُ من خلالِه على تنميَةِ قُدرتِها وقوّةِ إنتاجِها من جهة، والاستفادة من فائضِ قيمتِها في تحمُّلِ الأعبَاء الاجتماعيَّةِ من جهةٍ أخرى.

يزداد ضغط الاستثمار الأجنبي كلَّما وجد ملفًّا أو قضيَّة سياسيَّة لابتزاز هذه الدّولة العربيّة أو تلك

- إشكاليَّة ضَبط الاستثمار الأجنبي: إذْ يُعتبر هذا الاستثمارُ نتيجةً لاستعمارٍ مُضاعَف؛ قديم لعِب دورًا حاسمًا وتاريخيًّا في إيجادِ البنيةِ الاقتصاديَّة الحديثَة في بلدانِ الوَطنِ العَربي، وآخر جديد فَرَضَ تبعيَّته على دولِ الجَنوب ومنها دُول الوَطن العَربي. يمنحُ هذا الوَاقعُ الرَّأسمالَ الأجنبي قدرةً على فرضِ شروطهِ في الرِّبحِ والاستثمارِ في الدُّول العربيَّة، ويزدادُ هذا الضَّغطُ كلَّما وجد ملفًّا أو قضيَّةً سياسيَّةً أو حقيقيَّةً لابتزازِ هذه الدّولة العربيّة أو تِلك. ويتجلّى هذا الضَّغط في عددٍ من القَراراتِ والقَوانين الخاصّة بكلِّ دولة، من قبيل قانون المِيزانيَّة السَّنوي، والصفقاتِ العُموميَّة، والاتِّفاقيَّات بين دول الوَطن العَربي والدُّول الأجنبيَّة، وكلُّها صعوبات تحدُّ من قُدرةِ هذه الدُّول على فرضِ شروطِها في التَّشغيل على الرَّأسمال الأجنبي.

إشكاليّة تدبيرِ "التَّقسيم الدَّولي للعَمل": فمنذ سيطرةِ رأسمالِ "المَركَزِ" على "الأطرافِ" بتعبيرِ سمير أمين، وهو واقعٌ آخذٌ في التغيُّر اليوم. منذ ذلك الشَّرط الاجتماعي الجَوهري العَالمي، أصبح للحكوماتِ حيِّز محدود لاتِّخاذ قراراتٍ اقتصاديَّة تُوافِق حاجتَها الدَّاخلية فحسب، أي باستقلالٍ عن حَركيَّة النِّظام الاجتماعي الرَّأسمالي العامّ. وعليه، فكلُّ تفكيرٍ في مُشكلِ البَطالةِ ينبغي أن يتمَّ وفق الحيّزِ المسموح بهِ، وهو الحيّزُ الَّذي تستمدُّ منه الحلولُ واقعيَّتَها، سواء منها تلك المُؤقَّتة التَّكتِيكيَّة المُناسبة لاقتصادٍ تبعيٍ، أو تِلك الاستراتيجيَّة في أفقِ تحريرِ الاقتصادِ الوَطني واستقلالِه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن