هذه المنطقة عَرَفَت التَّنوُّعَ وعاشتْهُ بشكلٍ صِحِّيٍ، بل كانَ الدَّعامةَ الرَّافعةَ للنَّهضةِ في زَمَنِ الألقِ، هنا يمكنُ الاستفادة من تجاربِ الماضي لكن ليس لإحياءِ نارِ عداواتٍ مَتْحَفِيّة، أو نَبْشِ قبورِ صراعاتٍ تاريخيَّةٍ باليَة. والتَّعايش هو القائِم على المواطَنةِ والمُساواة، لا محاولة فرضِ ثوبٍ واحدٍ على الجميع.
عندما ننظرُ إلى العالمِ العربِي من أعلى سنَرى فُسَيْفِسَاءَ من الفِرَقِ والمَذَاهِبِ، تَشكَّلت على مدارِ قرونٍ داخلَ تجربةِ المُسلمين التَّاريخيَّة، بل هناك جماعات دينيَّة قبلَ الإسلام، ناهيكَ طبعًا عن الكَنائسِ المَسيحيَّة المُختلفةِ، كلّ هذا يطرحُ السُّؤالَ المَنطقي، كيْفَ وصلَ إلى عصرِنا كلّ هذا الطَّيف الدِّيني والعِرقي الواسع؟ الإجابةُ ببساطةٍ في إدراكِ حقيقةِ أنَّ قيمةَ التَّعَايُشِ كانت أساسيَّةً يومًا، على الرَّغم من أنَّها مرَّت بمُنعطفاتٍ كثيرةٍ وتَحدِّياتٍ عَديدَةٍ، وأزماتٍ في فتراتٍ مختلفةٍ غَيَّبَت فِكرةَ التَّعايشِ واحترامَ التَّنوعِ وراء حجابِ قوى سياسيَّة تنكَّرت لميراثٍ يمكنُ البِناءُ عليْه، فدخلَت المنطقةُ مرحلةً تنكَّر فيها أبناؤُها لقيمةِ الانفتاحِ على الآخَر.
المناخ المُنفتح عاشَتْه بلادُ العرب عندما كانت تُطَبَّق قِيَمَ التَّعايُش بين النُّخب والطّبقات الوُسطى والدُّنيا من الشّعوب
عندما ننظرُ لجماعةِ الآشوريّين والأَقَليَّةِ العِرقيَّة للإيزيديّين في العِراق، والدُّروز والنِّزارِيّة في سوريا، والنُّوبَة في مصر، نسألُ أنفسَنا كيف واصلت هذه الجماعَاتُ الحياةَ حتَّى يومِنا هذا؟ هل هناكَ طريقةُ غير التَّعايشِ واحترامِ الاختلافِ؟ التَّنَوُّعُ المَذهبِي والدِّينِي في المنطقةِ حقيقةٌ حملَها لنَا ماضي الأسْلاف، فعلى الرَّغم من الانتِكاساتِ المَفهومةِ في سِياقاتِ ما قبل الحداثةِ، إلَّا أنَّ بقاءَ كلّ ذلك التَّنوع في العالمِ العربي أمرٌ مُدهِش، إذا أضَفْنَا له السُّنة والشِّيعَة والعَلويّين والكنائِس الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة، فضلًا عن التَّواجدِ العِرقي من عرب وأمازيغ وأكراد وأرمن.
لا يعني هذا أنَّ تاريخَ المِنطقةِ كان قطعةً منقولةً من الجَنَّة إلى الأرضِ، بل إنَّ الأمرَ استدْعى الخَوْضَ في الدِّمَاءِ والمجازر والصِّداماتِ المَذهبيَّةِ الدَّمويَّةِ، وهذا أيضًا درسٌ يجبُ أن ندركَه ونتعلَّمَه، لكي نتجاوزَه إلى الجانبِ الإيجَابي القائِم على التَّعايش في فتراتٍ تاريخيَّة طَويلة، فمن يتخيَّلُ بلاطَ الخَليفةِ العبَّاسي وهو يضمُّ نقاشاتٍ بين أبناءِ مُختلفِ المَذاهبِ والنّحل، بينما الخليفةُ الفاطمِي في القاهرة يُعيِّن اليهودي والمسيحيّ في أعلى مناصِب الدَّولة.
قام حُنين بن إسحق بدورِه في التَّرجمةِ إلى العَربيَّة، وكان ابن خَالوَيْه طبيبَ الخُلفاء، ومتَّى بن يونُس شاركَ بنصيبٍ في ميلادِ الفلسفَةِ العربيَّة، ودخلَ في مناظرةٍ شهيرةٍ مع أبي سَعيد السِّيرافي حول المنطقِ والنَّحوِ، وعن ابن يونس تعلَّمَ الفَارابي الفلسفة، أمَّا الفيلسوفُ المسيحي العربي يحيى بن عَدي فقد افتخرَ بنسْخِ تفسيرِ الطّبري الضّخم مرتَيْن، ونقلَ الكثيرَ عن كُتُبِ علمِ الكَلامِ الإسْلامِي، كذلك موسى بن ميمون هو الآخر كتبَ كتابَه الشَّهير "دلالةُ الحائِرين"، متأثِّرًا بأفكارِ علمِ الكلامِ، وعمِل طبيبًا شخصيًّا لصلاحِ الدِّين الأيّوبي في مصر، ولم تكُن المسيحية عائقًا أمامَ الأخطَل التَّغلِبِي ليكون من فحولِ شعراء عصرِه.
يكتبُ أبناءُ كنائس مسيحيَّة تواريخَ على نهْجِ تواريخِ المُسلمين عينِه، من أمثال يحيى الأنطَاكي وابن العِبري وابن العميد وابن العسَّال، بلْ أزيدُ من الشِّعرِ بيتًا، فلدينا ابن رجا وهو شخصٌ تحوَّل من الإسلام إلى المَسيحيَّة في مصر الفاطميَّة، وألَّف الكتبَ دفاعًا عن المسيحيَّة، وعلى الرَّغم من ذلك لم يتعرَّض له أحد، وهذا الرَّازي الطبيب يعتنِقُ الربوبيَّة ويُنْكِرُ النُّبُوّاتِ، فيتمُّ الردُّ عليهِ بالفكرِ ولا يتعرَّض له أحد.
علينا أن نستعيدَ تاريخَنا وتُراثَنا والإيمان بأنَّ التَّنوُّعَ في المجتمعات العربيَّة كان دائمًا عنوان الازدهار الحضاري
هذا المناخُ المُنفتحُ عاشَتْه بلادُ العَربِ يومًا، عندما كانت تُطَبَّقُ قِيَمَ التَّعايُش بين النُّخبِ والطّبقاتِ الوُسطى والدُّنيا من الشُّعوبِ بكلِّ بساطةٍ تعكُسُها أوراقُ البردى ووثائقُ الجنيزة، وهي مصادرُ وثائقيَّة على دَرجةٍ عاليَّةٍ من المصداقيَّة تَعكُس واقعَ حياةِ المَسيحيّين واليَهود في مِصر تحت حكْم المُسلمين، بل إنَّها وثائِق تكشفُ عن تفاصيل حياتيَّة يتشاركُ فيها المُسلم والمَسيحي واليَهودي بصورةٍ تجعلُ بعض أصحابِ العقولِ الضَّيّقةِ يُصابُ بالاختناقِ من كلِّ هذهِ الوَقائع التي تنسفُ تاريخَه المُتخيَّل عن السَّلف.
نحتاجُ لكلِّ هذه الرُّوح في أيامِنا، أن نستعيدَ الرُّوح التي يعيشُ فيها الإنسان العربي مُتَقَبِّلًا كُلَّ التَّنوعِ الخَلَّاقِ من حَولِه، هذا يحتاجُ إلى إعادةِ تأسيسِ العقلِ الجَمْعي الذي أصيبَ بالعَطَبِ بعد عقودٍ طويلةٍ من الاستعمارِ والدِّيكتاتوريَّة سبقَتْها قرونٌ من عَسْكَرَةِ المُجتمعاتِ، وكلّها عوامِل تراكمَت حتَّى أفقدَت العقلَ العَربِي مُرونَتَه وأبعدَتْه عن واقعِ التَّنوُّعِ والاختلافِ البنَّاء، والتَّعامُل الإنْساني مع الأمور، عندما نسمعُ صيحاتٍ طائفيَّةً في مدنِ العربِ اليوم، علينا جميعًا أن نستعيدَ تَاريخَنا وتُراثَنا في التَّعَايُشِ وقبولِ الآخر، والإيمان بأنَّ التَّنوُّعَ في المُجتمعاتِ العربيَّة كان دائمًا وأبدًا عُنوانَ الصِّحَّةِ والازدهارِ الحَضَاري.
(خاص "عروبة 22")