تقدير موقف

مسيحيّو سوريا والمستقبل... قراءةٌ في نصوصٍ ثلاثة

في الأسبوعِ الأخيرِ من شهر ديسمبر/كانون الأول 2024، صَدرَت ثلاثَة بياناتٍ مُتزامِنة من قِبَل مسيحيّي سوريا عبْر البَطرِيرْك يوحنّا العاشِر يازِجي بطريرك أنطاكية وسائرِ المَشْرِق للرّوم الأرثوذكس أوَّلًا، وبطارِكةِ ورؤساء الكنَائِس في سوريا ثانيًّا، ومجموعةٍ من المَسيحيّين المَدنيّين ثالثًا. تَمحْورَت البياناتُ الثّلاثة حول مستقبلِ سوريا ومواطِنيها في سِيَاقِ التَّحوُّلات الإقليميَّة شَديدةَ التَّعقيد التي يشهدُها الإقليم. وعَكَسَت مَضَامين البياناتِ الثَّلاثة مساهمةً وطنيَّةً مَسيحيَّة لبَلْوَرَةِ تَصَوُّرٍ للكَيْفيَّة الّتي تَتمكَّن سوريا الوَطن من أن تكونَ حاضنةً لكلِّ مواطِنيها على اختلافِهم.

مسيحيّو سوريا والمستقبل... قراءةٌ في نصوصٍ ثلاثة

قامَت بنيَة البياناتِ الثَّلاثة على أساسَيْن هما: الأساسُ الأوَّل: التَّجَذُّر التَّاريخي للمَسيحيَّةِ والمسيحيّين في سوريا والمِنطقة؛ الأساس الثاني: المسؤوليَّة التَّارِيخيَّة للمواطِنين المسيحيّين السّوريين حيالَ وطنِهم.

البناء المُواطِني المُشتَرك لسوريا المُستقبل هو المبدأ/الهدف الذي يسعى إليه المواطنون المسيحيّون في سوريا

فيما يتعلَّقُ بالأساسِ الأوَّل؛ فلقد تَوافقَت البياناتُ الثَّلاثة على ترسيخِه. ففي بيانِه يقوم البطريرك يوحنا العاشر بتضفيرٍ تَاريخِيّ - جُغرافِيّ/مَسيحيّ - حَضارِيّ لمسيرةِ المَسيحيَّة والمَسيحيّين في سوريا والمِنطقة، يُوجِزُهَا بعبارةٍ بليغةٍ مكثَّفةٍ بقولِه: "من خَبايا هذا التّاريخ المَدفونِ والسَّاطعِ في آنٍ معًا من قلبِ هذا الشَّرقِ الذي فيه وُلِدَ المسيحُ مشرِق مشارِقنا، نطلُّ على الدُّنيا في مطلعِ الرُّبعِ الثَّاني من القرنِ الحادي والعشرين على تَجَسُّدِ ذاك الطِّفل الذي رَنَّمَت الملائكةُ في ميلادِه على أعتابِ ذات مغارَة: المجدُ لله في العُلى وعلى الأرضِ السَّلام وفي النَّاس المَسرَّة. نُطِلُّ اليومَ لنُناجيَ ذاك الموْلود. نُطِلُّ لنُناجيَ تِلك العذراء التي اختارَت الصَّمتَ أمام محبَّةِ الخالِق. نُطِلُّ لنَسرُدَ له حكايةَ ألفَيْ عام من وجودِنا في هذهِ الأرض، في هذا الشَّرق. نُطِلُّ لنضعَ أمام الدُّنيا من جَديد حكايةَ مَن تَسَمّوا باسم المَسيحِ في الأرضِ الّتي وُلِدَ فيها. نُطِلُّ من هَهُنا من المَرْيَمِيَّةِ (إحدى كنائس دمشق العَريقة ومقرُّ بطريركيَّة أنطاكيَة وسائر المَشرِق للرّوم الأرثوذكس) لنقولَ كمَسيحيّين... نحنُ من جُغرافيةِ هذا الشَّرق إلى كلِّ العالَم. نحنُ من هذا الشَّرق الّذي قُدَّت المَسيحيَّة في نفوسِ أبنائِه كما قُدَّت الكَنائس من رحمِ صَخر".

أمَّا ما يتعلَّق بالأساسِ الثّاني: المسؤوليَّةُ التَّاريخيَّة للمواطِنين المَسيحيّين السُّوريين حِيال وطنِهم؛ فلقد أكَّد البطاركةُ ورؤساء الكنَائِس في مستَهلِّ بيانِهم عليه كما يلي: "أمامَنا كمسيحيّين دور مهمّ ومِحوَري في هذه المرحلةِ وهو التَّعاوُنُ مع الجميعِ للنُّهوض بهذا الوَطن". وهو الدَّور الذي تمنّى البطريرك يوحنا العاشر من جانبه في "العامُ الجديدُ بارقةُ خيْر ورجاء وفاتِحَة أمل" لسوريا المُستقبل ولسائِر المِنطقة. وعليه كان إعلان المدنيّين السّوريّين المَسيحيّين أنَّهُم "يمدُّون اليَدَ إلى الجَميع" من أجل "البناءِ معًا، دولةً سوريَّةً نكونُ فيها جَميعُنا، ومن كل أطيافِ سوريا وشَرائحِها وخَلفيَّاتِها وثَقافاتِها وجَماعاتِها، مُواطِنين مَدنيّين مُتساوِين تُوحِّدُنا الحقوقُ والواجبات، يُوحِّدُنا المَصير والقَرار، يُوحِّدُنا الوطن والانتماء".  ويُشجِّع البطارِكة مبادرَة التَّعاون الوَطني الجَمْعِي بدعوةِ المسيحيّين "لعدمِ الانْطِواء والخَوْف، بل للمُشاركةِ الفعَّالة في الحَيِّز العامّ... حتَّى يكونوا شُرَكَاء في بناءِ سوريا الجَديدة".

المخاض الرَّاهن لا بدَّ من مُواكبتِه بروحيَّةٍ ومَنهجيَّةٍ جديدَةٍ تتجاوزُ الماضي من أجل استعادةِ الدَّورِ السُّوري العَربي والدَّولي

إذَنْ، البِناء المُواطِني المُشتَرك لسوريا المُستقبل؛ هو المبدأ/الهدفُ الذي يسعى إليه المواطِنون المَسيحيّون في سوريا. وتؤَصِّل البياناتِ الثَّلاثة لهذا المسعَى في ضوءِ المُقَوِّمَاتِ الأربعة التالية:

أوَّلًا: سوريا "ذات الهُويَّة الإنْسانيَّة الحَضاريَّة"، وثانيًا: "التَّنوُّع الإثْنِي والدِّينِي والحضارِي الذي مَيَّزَ سوريا"، وثالثًا: "إرادةُ العيشِ المُشترك" التي اختبرَها السُّوريُّون" وأَمَدَّ التَّنوُّعَ بالقُدرةِ على تَجاوزِ اختباراتِ التَّاريخِ ومِحَنِه، ورابعًا: المُشاركة في "الألمِ والمُعاناةِ معًا" ما يستلزمُ ويدفَعُ - بالضَّرورةِ - إلى "بناءِ سوريا المستقبل معًا يدًا بِيَد، كأخْوةٍ مُتَكافئِين مُتسَاوِين". ولا يمكنُ لهذا المَبدأ الأصيل/الهدَف النَّبيل أن يتحقَّقَ ما لم، وحسب نص البطريرك يوحنَّا العاشر، "تذوبُ الوَاو بين النَّحْن (المَسيحيّون) والأنتُم (المُسلمون) وتَسْقُط"، إذْ إنَّ "هذه الوَاو يُسْقِطُها مجتمعٌ يقومُ على أُسُسِ المُواطَنة ويَحترمُ كلّ الأدْيَان ويُراعِي كلّ الأطْياف في دستورٍ عصرِي يشاركُ في إعدادِه الجميع ونحنُ مِنْهُم؛ دستور يُراعِي مَنطقَ الدَّورِ والرِّسالةِ لا منطقَ الأقليَّة والأكثريَّة العدديَّة؛ دستور يَغْرُف من انفتاحِ إسْلام بلاد الشَّام ويَسْتَسْقِي من عَراقةِ مسيحيَّتِها في احترامٍ مُتبادلٍ لعيشٍ واحدٍ عِشناه ونَعيشُه دَوْمًا؛ دستور يُحقِّق المُساواة بيْن جميع السّوريّين على كافَّة الأصعدةِ الاجتماعيَّة منها والسِّياسيَّة."

وتأسيسًا على ما سبَق، تَوافقَت البياناتُ الثَّلاثة على أنَّ المخاضَ الرَّاهنَ الذي تشهدُه سوريا من جهة، والمِنطقة من جهةٍ أخرى، لا بدَّ من مُواكبتِه بروحيَّةٍ ومَنهجيَّةٍ جديدَةٍ تتجاوزُ الماضي بكلِّ مُلابساتِه من أجل استعادةِ الدَّورِ السُّوري العَربي والدَّولي. لِذا تُقدِّم النُّصوصُ/الخِطابات الثَّلاثة الكثيرَ من الأفكارِ المُحدَّدَة التي يُمكنُ أن تكونَ إطارًا حاكمًا للتَّفكيرِ والحوارِ والتَّنفيذ.

وقد بَلْوَرَ بيانُ البَطاركةِ عناصرَ هذا الإطار بإحكامٍ مَنهجِي موجزٍ بسيط - من دون إخلالٍ - كما يلي:

العنصرُ الأوَّل: "إطلاقُ حوارٍ وَطنيٍ شاملٍ يضمُّ كلَّ الأطيَاف والمُكوِّنات ويُعزِّزُ الثِّقةَ والتَّماسُكَ المُجتمعي ويُعالِجُ جذورَ النِّزاع ويُعيدُ صِياغةَ الهُويَّةِ الوطنيَّةِ السّوريَّةِ على أساسِ القِيَمِ المُشتركةِ: المُواطَنَة والكَرامَة والحُرِّيَة والعَيْش المُشترك".

العنصرُ الثَّاني: "إطلاقُ وُرَشِ حوارٍ على المُستوى المَحلّي يشمَل كلّ المُحافظات والمُدُن والقُرى لمُعالجَةِ كلِّ التَّحدِّيات الّتي تَطالُ التَّماسُك الاجتماعي والعيشَ المُشترك، ولتحقيقِ المُصالحةِ الحَقيقيَّة في المَواضع التي تحتاج إلى مصالحةٍ ومصارَحةٍ، وللوصولِ إلى التَّعافي المُشترك من قِبَلِ أبناء المُجتمعاتِ المَحلِّيَّة أنفسِهم في كلّ بقاعِ سوريا".

العنصر الثَّالث: "العملُ على تعزيزِ الثِّقة بيْن السّوريّين من خلال مشاريعَ مُجتمعيَّة تَنمويَّة تُسهمُ في إعادةِ بناءِ النَّسيجِ الاجتِماعِي، وتُعزِّزُ الشُّعورَ بالانتماءِ المشتركِ إلى الدَّولة الواحِدة".

العنصر الرَّابع: "إحياءُ روحِ العيْش المُشتركِ التي كانت دائمًا جُزءًا من تُراثِنا السّوري والعملُ على إزالةِ الأحكامِ المُسْبَقَةِ ومُواجهةِ خطابِ الإقصاءِ والكراهيَّة والتَّمييز، لأنَّ الثَّأر والأحقادَ لا تَبْنِي وطنًا".

العنصرُ الخامس: "التَّعاوُن من أجل تعزيزِ الأمنِ والأمَان لضمانِ سلامةِ المُواطنين جميعًا وترسيخِ السِّلمِ الأهلي".

هناك إرادة مواطِنيَّة مسيحيَّة سوريَّة للمشاركة في رسْمِ صورةِ مستقبلِ سوريا

ورَبطَت البيانات الثَّلاثة، بدرجةٍ أو بأخرى، بيْن ما سَبَقَ وبيْن الشَّراكَةِ الوطنيَّةِ في صِياغةِ دستورٍ مَرجعِي يَلتزِمُ "بمبادِئ المُواطَنةِ وسيادةِ القانونِ والفَصْلِ بيْن السُّلطاتِ واحترامِ الحرِّيات العامَّة والفرديَّة وحرِّيَةِ الرَّأي والمُعْتَقَد وإشْراكِ المرأة... واحترامِ التَّنوُّع... ويضمَنُ فُرصًا مُتساويَةً في الحياةِ السِّياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ والاقتصاديَّة..."؛ - في غيْر خصومةٍ مع الدِّين - ما يضمن عدمَ الاستِئْثارِ ويَحُولُ دونَ الإقصاءِ أو الفَرزِ الطائفِي والإثنِي.

وبَعْد، تعكسُ قراءتُنا الأوَّليَّة للبياناتِ الثَّلاثة السَّابقة إصرارًا مُواطِنيًّا سوريًّا مَسيحيًّا على الحضورِ الفاعِل، وعلى المشاركةِ الجِدِّيَّةِ في بناء سوريا المُستقبليَّة الجديدةِ على جميع المُستويَات: الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والسِّياسِيَّة، والثَّقافيَّة. إنَّها بيانات/نصوص/وثائق تاريخيَّة بكلِّ المعايير تشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ هناك إرادةً مواطِنيَّةً مسيحيَّةً سوريَّةً: مَدَنِيَّة وإكليروسيَّة على السّواء؛ بغضِّ النَّظرِ عن بعْض التَّفاصيلِ التي وَردَت في هذا البيانِ أو ذاك، للمشاركةِ في رسْمِ صورةِ مستقبلِ سوريا... وأظُنُّهَا تستحقُّ الحوارَ المُعمَّقَ حولَها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن