المؤكد أنّ هناك إعلامًا مهنيًا وآخر غير مهني، وأنّ مشاكل الإعلام المهنية لا يمكن حلّها في ظلّ نظم غير ديمقراطية، كما من الصعب القول أيضًا إنّ مشاكل الإعلام ستختفي بمجرد بناء نظام ديمقراطي، فسيبقى هناك مشكلات مهنية تتعلّق بعملية تنظيم الإعلام ومستقبله تعطي النظم الديمقراطية فرصًا أكبر لحلّها عن تلك غير الديمقراطية.
بعض من يحملون لقب الصحافة خانوا قيمهم المهنية والأخلاقية وصاروا أقرب للّجان الإلكترونية في الفبركة والتضليل
قضية الخلط بين المهنية والحياد فتحت باب النقاش حول الفارق بين الإعلام المهني و"البروباجندا"، وبين المهنية والدعاية، وبين "الخبر المحايد" وبين قراءته أو تحليله التي ستحكمها المهنية وليس الحياد، وستختلف من سياسة تحريرية لكل منصة وأخرى.
نعم، هناك أمانة وحياد في سرد الوقائع والأحداث ولا يمكن لمنصة إعلامية تستحقّ أن تصف نفسها بأنها إعلام أن تخترع واقعة لم تحدث أو تفبرك خبرًا غير حقيقي، إنما هناك مدارس في الصحافة والإعلام قوتها وتأثيرها في قراءة "ما وراء الخبر" وهنا تتنوّع المدارس الصحفية، ويمكن أن نقول عن هذه المنصة بأنها محافظة أو ليبرالية أو يسارية، وجميعها طالما تشرّفت بحمل لقب صحافة وإعلام فلن تجد واحدة منها تدلس وتختلق خبرًا إنما ستقرأه بطرق مختلفة، وللأسف بعض من يحملون هذا اللقب في عالمنا العربي وغيره خانوا قيمهم المهنية والأخلاقية وصاروا أقرب للّجان الإلكترونية في فبركة الأخبار وتضليل الناس.
من يفبركون الأخبار ويزيّفون الحقائق موجودون، ولكنهم خارج أي حسابات لتطوير الصحافة والإعلام، والاشتباك مع التحديات الجديدة يخصّ المنصات الإعلامية التي تتمتّع بحدّ معقول من المهنية.
أول هذه التحديات هو تحدي تراجع الصحافة الورقية ومستقبلها، فقد أصبحنا نعيش في ظل سياق عالمي وتكنولوجي واقتصادي ومالي جديد، يُعقّد في كثير من الأحيان من الإشكاليات التي تواجهها المؤسسات الصحفية والإعلامية، مثل تفاقم أزمة الصحافة الورقية، التي أخذت في التزايد عقب تصاعد تأثير شبكة الإنترنت، وتتمثّل في عزوف الكثير من القرّاء عن اقتناء أو مطالعة الصحف الورقية، ونشأة جيل جديد لم يعد يتعامل مع الورق، وفي تغيّر أنماط الاهتمام والقراءة لدى مجتمع المعرفة، وشيوع ثقافة الحصول المجاني على المعلومة، كل هذا أدى إلى التراجع المتواصل لمبيعات الصحف الورقية وانخفاض عائداتها من الإعلانات، التي تتحرّك بسرعة صوب شبكة الإنترنت.
والواضح أنّ الإقبال الكثيف على هذه الوسائط التكنولوجية وامتلاك جانب من الناس العاديين التكنولوجيا اللازمة لاستخدامها، طرح تحديًا جديدًا على المؤسسات الإعلامية ذاتها، سواء بظهور صحافة المواطن ودورها وحدودها (المواطن الذي يجلب الخبر ويرسله في الوقت نفسه)، كما أنّ كثيرًا من الصحف والمواقع، بل وكثير من الفضائيات باتت تنقل ما يُكتب على مواقع التواصل الاجتماعي وتعرض التغريدات المختلفة دون أيّ تدخّل تحليلي أو تحريري يُذكر، مما أدى إلى تراجع تأثير الصحف ووسائل الإعلام المختلفة في المجال العام.
وتبقى هناك معضلة تنوّع الإعلام البديل وصعوبة تحديده، خاصة في بلد مثل مصر، فهناك مبادرات شبابية لمواقع جديدة اختلفت عن النسق السائد في المنصات الصحفية الكبرى ومواقعها الإلكترونية، كما أنّ هناك مواقع مؤثّرة ومستقرّة ماليًا ولكنها مثّلت نمطًا مختلفًا وأكثر حداثة من النمط السائد في الصحافة المصرية، واعتبرت نفسها جزءًا من "الإعلام البديل" ولكنها اعتمدت في تمويلها بالكامل على مؤسسات وجهات أجنبية، وعرفت استقرارًا مؤسسيًا وماليًا، على خلاف كثير من المواقع الصحفية المشابهة التي وصفت أيضًا بالإعلام البديل ولكنها عانت من مشكلة تمويل، وأُغلق كثير منها.
أما التحدي الثاني، فهو تحدي الملكية، فما زالت قضية ملكية الصحف والمؤسسات الإعلامية، أمر غير محسوم، على أكثر من مستوى، بدايةً من إشكاليات ملكية الدولة للصحف كما هو الحال في أكثر من بلد عربي، فيما يُعرف بالصحف القومية أو الإعلام الرسمي في مصر، أو الإعلام العمومي في تونس، مرورًا بالصحف الخاصة، وانتهاءً بالحديث "النظري" حول أنماط أخرى من الملكية مثل نمط الجمعية العمومية والمساهمين، وغيرها من الأنماط المحتملة لكسر احتكار الدولة والمؤسسات المالية الخاصة لملكية الصحف.
مواكبة التطور التكنولوجي أمرٌ لا مفر منه، والانغلاق ليس إلا حُكمًا بالعزلة وإغلاق الأبواب أمام الازدهار والتنمية
تتنوّع أنماط ملكية الإعلام في العالم بين الملكية العامة والخاصة، فلا يزال هناك الإعلام المملوك للدولة والذي يدار بمنطق المؤسسة أو الخدمة العامة وفق مجموعة من القواعد التي نجحت من الناحية النظرية والقانونية في إبعاد تأثير السلطة التنفيذية أو الحزب والرئيس الحاكم في البلدان الديمقراطية عن الإعلام. وهنا تبدو تجربة "بي بي سي" البريطانية ذات أهمية خاصة من حيث القواعد التي تحكم عملها كنموذج لنمط الملكية العامة، وكذلك كثير من محطات التليفزيون في فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي تدار بمنطق الخدمة العامة وليس ذراعًا للنظام الحاكم، ملكية أو جمهورية.
تحدٍ ثالث يواجه "الإعلام المهني" في عالمنا العربي يتعلق بحضور منصات إعلامية عابرة للقارات، فيكاد يكون العرب من أكثر بقاع الدنيا التي يُبثّ على أرضها منصات أمريكية وبريطانية وفرنسية وألمانية وتركية وصينية وروسية باللغة العربية، وهو أمر مستحيل أن تجده بالكثافة نفسها في أيّ بقعة حضارية أخرى من العالم.
لم يعد حضور الإعلام في كل بلد قاصرًا فقط على المؤسسات الوطنية التي تبثّ من داخل الحدود، إنما أصبح هناك حضور لمنصات إعلامية عابرة للقارات بكل ما تبثّه من قيم ومن هوية "متعولمة" عابرة للحدود، وأصبحت قضية الانفتاح على العالم "واقعًا حضاريًا وعصريًا"، كما أنّ التفاعل مع الآخر ومواكبة التطور التكنولوجي والمعلوماتي أمرٌ لا مفر منهُ، وأنّ الانغلاق ليس إلا حُكمًا بالعُزلة وإغلاق الأبواب أمام الازدهار والتنمية، دون أن يعني ذلك الانسلاخ عن الهوية الوطنية التي يختار الناس بمحض إرادتهم وفي عصر السموات المفتوحة التمسّك بها بصور أكثر حداثة وانفتاحًا على الآخر.
كما تأثّر الإعلام المهني في العالم العربي بالثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال الرقمي، حيث ساهمت الأخيرة في خلق وسائل إعلام جديدة، أصبحت في متناول عدد كبير من الجمهور، كالصحافة الالكترونية والبريد الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والمدونات وغيرها، التي أتاحت للكلّ فرصة الإرسال والحضور الإعلامي، بدلًا من نظم التواصل القديمة التي كانت تقتصر على مرسل واحد، والمعرفة التي تتضاعف كل ستة أشهر أو أقل، والبرمجيات الجديدة التي تتنافس على خدمة الإنسان العصري، والرسائل التسويقية، والرسائل اللحظية لتطبيقات "واتسآب" و"فيسبوك" و"انستغرام" و"X" (تويتر سابقًا)، التي تقتحم خصوصية الإنسان كل يوم وتؤثّر على حضور المنصات الإعلامية.
الإعلام المطلوب في عالمنا العربي ليس فقط الإعلام المهني غير المحايد وغير الدعائي، إنما أيضًا القادر على التفاعل الإيجابي مع كل التحديات الجديدة التي صارت أمامنا في العصر الحالي.
(خاص "عروبة 22")