كان نظامُ بشّار الأسد قد جاءَ عليْه وقْت انْخَلَعَ فيه من جامعةِ الدُّول العربيَّةِ تمامًا، وكان ذلكَ في مرحلةِ ما بعد "الرَّبيعِ العَرَبِي" الذي هَبَّت عواصِفُه على المِنطقة في عام ٢٠١١، ولم تكُن سوريا استثناءً فأصابَها من عَواصِفِ الرَّبيع ما أصابَها.
ولا تعرفُ كيف رَضِيَ نظامُ بشّار أن ينسلخَ مِن عُمْقِهِ العَربي على نحوِ ما جرَى؟ كما لا تعرفُ أيضًا كيف لم يُدْرِكْ أنَّ انسلاخَه من عُمْقِه العَربي خطرٌ ستكونُ له عَواقبُهُ وتَداعياتُهُ على بِلادهِ بالضَّرورة، وقد تجلّى هذا في مَشهدِ سقوطِ النِّظامِ في الثّامِن من ديسمبر/كانون الأوّل ٢٠٢٤، الذي يبدو على الرَّغم مِن مِضِيّ أكثر من شهرٍ عليه وكأنَّه ضَرْب مِن الخَيال.
أطراف غير عربيَّة في الإقليم تَتمنَّى لو أغْمضَت عَينيْها ثُمَّ فَتحتهُما فلا تجِد جامعة الدّول العربيَّة
الوَفْدُ المُرتقبُ لم يَكُنْ في مقدورِه أنْ يقومَ بزيارةٍ كهذِه في أيَّام النِّظامِ السَّابق، لأنَّه كان يُخاصِمُ الجامعةَ ويراها سَببًا في تَجميدِ عُضويةِ سوريا فيها منذ أيامِ "الرَّبيع" بدايات العقْد الماضي. والحقيقةُ لم تَكُنْ كذلكَ طبعًا. كانت الجامعةُ ضدَّ القمعِ الذي مارسَهُ الأسد الابن على السّوريّين المُطالِبين بالحرِّيَّة، وكانَ هوَ يرفضُ موقفَ الجامعةِ ويواصلُ قمْعَ المُواطِنين في درعا ثم في سِواها من المُدُنِ السّوريةِ بعد ذلك. كانَت سِياساتُه هي الفِعل، وكان موقفُ الجامعةِ رَدّ فِعل، وما بين الفِعل وردّ الفِعل غابَت دمشقُ عن مقعدِها في الجَامعةِ ما يزيدُ على العَشْرِ سنوَات.
المؤكَّدُ أنَّ ضرورةَ العُمقِ العَربي بالنِّسبةِ لسُوريا كانت غائبةً عنْه، ولو أدرَكَ هذه الضَّرورة لكانت الحالُ في سوريا الآن غَيْرَ الحال، ولكنَّه راهنَ على طهران مَرَّةً وعلى موسكو مَرَّةً ثانيَةً، وفي الحالتَيْن كان رِهانًا في غيْر مكانِه الصَّحيح. ولا شيء يدلُّ على خطَأ الرِّهان إلَّا أنَّه لمَّا انتظرَ العَوْن من الإيرانيّين والرّوس في غمْرَةِ احتياجِه إليْهم لم يُسْعفُوه في شيء، ولم يُلقُوا إليْه طوقَ نجاةٍ كان هو أشدُّ ما يكون بحاجةٍ إليْه في أيَّامِه الأخيرَة.
وطَوَالَ فَترَة الغيابِ كانت محاولاتُ إعادةِ سوريا الى الجامعةِ لا تنقطِع، ولكنَّه كانَ يَصدُّها مرّةً ويَردُّها مرَّات، وكان هو الخاسِر لا الجامِعة بالتَّأكيد.
لم يتوقَّف السَّعيُ العَربي لإعادةِ سوريا الى حضنِها العربي، وقد عادت بالفِعل في القِمَّةِ العربيَّةِ التي شهدَتْها مدينةُ جدَّة في مايو/أيار من السَّنةِ المَاضيَة، وعندما وقفَ بشّار يُلقي كلمةَ بلادِه في القِمَّةِ تجاهَل ذِكْرَ الجامِعةِ في مطلَع كلمتهِ على العكسِ من بقيَّة كلماتِ الوُفودِ العربيَّة كلّهَا، وكان تجاهلُه ذِكْرَ الجَامعةِ عن قصْد، وكان دليلًا آخر على أنَّه لا يزالُ في نفسِه شيء مِنها، ولو أنصفَ نفسَه وبِلادَه لكانَ قد لاذَ بالجامعةِ باعتبارِها بيْتَ العَرَبِ الذي لا بديلَ عنْه مهْما كانَت المُلاحظَات عليْه، ومهْما كانَ الضِّيقُ من الجَامعةِ أو مِن عدمِ قدرتِها على "فعل" شيء.
غَابَت سوريا عن جامعةِ الدّول فغابَت المِظَلَّةُ الحاميَةُ لَها، حتى لو كانَت مظلَّةً معنويةً أكثرَ مِنها مظلةً قادرةً على مدِّ يدِ المُساعدَة.
عُمق سوريا العربي لا بديلَ له والبديل الإيراني لم يكن حلًّا ولا البديل الرّوسي كان حلًّا والبديل التّركي لن يكون حلًّا
وفي مناسباتٍ كثيرة، كانت الجامعةُ محلَّ هجومٍ من أطرافٍ غيْر عربيَّةٍ في الإقليم، وكان الهجومُ إشارةً في كلّ حالاتِه الى أنَّ هذه الأطرافَ تَتمنَّى لو أغْمضَت عَينيْها ثُمَّ فَتحتهُما فلا تجِد جامعةَ الدّول العربيَّة ولا تجِد لهَا أي أثَر.
وإذا كانَ للإِدارةِ الجَديدةِ في دمشق أن تَستفيدَ من كلِّ ذلك في شيء، فهذا الشيءُ هو أن تَمْشِيَ على عكسِ ما مَشَى عليْه نِظام الحُكمِ السَّابق، وأنْ تردَّ سوريا إلى عُمقِها العربي، وأن تنتبهَ الى أنَّ هذا العُمْقَ لا بديلَ له، وأنَّ البديلَ الإيراني لم يكن حلًّا ولا البَديل الرّوسي كانَ حلًّا، وأنَّ البَديلَ التّركي لن يكون حلًّا في المقابِل.
سوريا عربيَّة، وأهلُها عرَب، وأرضُها عربيَّة، وعلى الرَّغم من أنَّ هذه بديهياتٍ ثلاث إلَّا أنَّ الصَّخَبَ الحاصِلَ في المِنطقةِ يَقتضِينَا أنْ نظلَّ نضعهَا أمامَ الإدَارةِ الجَديدةِ هناك لعلَّها تأخذُ حَذَرَهَا.
(خاص "عروبة 22")